14‏/02‏/2008

الشرق الأوسط الكبير: المفهوم والخلفيات


الشرق الأوسط الكبير: المفهوم والخلفيات

د. خليل حسين

أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
يعود استخدام مفهوم الشرق الأوسط الى الحرب العالمية الأولى بهدف مواجهة المد القومي العربي الذي سعى بدوره الى التصدي لمشروع ما عرف بسياسة التتريك التي أرادت الحركة القومية التركية فرضها على المجتمعات العربية بقيادة حركة "تركيا الفتاة" منذ بدايات القرن العشرين. وفي نفس الوقت برزت مشروعات مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية عبر اتفاقات ومعاهدات تقسيم الوطن العربي بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، مثل معاهدة سايكس- بيكو لعام 1916.
وفي الواقع لم يكن مفهوم "الشرق الأوسط" يشير إلى نطاق جغرافي محدد المعالم ولا إلى تاريخ محدد لشعوب المنطقة،انما استند في الأساس إلى نظرة السياسات الاستعمارية الأوروبية إلى أوروبا كـ"مركز" للعالم يقع خارج "الشرق الأوسط"، ولذلك اطلقت القوى الاستعمارية الأوربية التعبيرات المختلفة بخصوص مناطق التوسع الاستعماري، وفي هذا الإطار شاعت فكرة "الشرق الأوسط" في السياسة البريطانية، وفكرة "المشرق" في أدبيات السياسة الفرنسية وكلاهما يعتبران من المفاهيم الجيو سياسية والإستراتيجية اللتين دلّتا على طبيعة واهداف القوى الأوروبية إزاء "شرقها"، وهي بالمعنى الجغرافي عكست إستراتيجيات تقاسم مناطق النفوذ بينها وبخاصة مع اكتشاف النفط في كل من إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية . وبذلك تداخل في المشروع الاستعماري الاوروبي الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا، وحمل المفهوم في ثناياه تصورًا لعلاقة الوطن العربي بالعالم الغربي.
ولقد شكل نشوء اسرائيل ككيان سياسي في قلب الوطن العربي شكلا جديدا لمصطلح الشرق الاوسط ، كعلاقة ما تجمع او تمزج العرب باسرائيل من وجهة النظر الاوروبية للجفرافيا السياسية للمنطقة ، ذلك بعدما تفاقمت المسألة اليهودية في اوروبا لجهة عدم اندماج اليهود في الدول الاوروبية وسعي الحركة الصهيونية لانشاء كيان صهيوني في فلسطين ، وبذلك تقاطعت مصالح كل من فرنسا وبريطانيا والحركة الصهيونية على هدفين اساسيين هما تجزئة المنطقة العربية من جهة وحل "المشكلة اليهودية" التي شغلت أوروبا كثيرًا، من جهة أخرى.
وعليه يمكن القول ان الشرق اوسطية نُسِبَت كفكرة الى قوى خارج النطاق الجغرافي للمنطقة وتحديدا الى اوروبا ولاحقا الى الولايات المتحدة الامريكية ، وهو لم يشمل منطقة محددة من الناحية الجغرافية ، اذ تبدلت توسعا وانكماشا بحسب مخططات هذه القوى ضد دول المنطقة ومستوى تحالفاتها ومصالحها. ففي إطار سعي بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة لحصار المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين،توسّع المفهوم ليشمل دولاً إسلامية غير عربية مثل إيران في عهد الشاه وتركيا، بحيث يصبح الشرق الأوسط نطاقًا إستراتيجيًّا وأمنيًّا يقوم على سلسلة من الأحلاف مثل حلف بغداد عام 1955، ومن ثم مشروع الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور لملء الفراغ الإستراتيجي بقيادة الولايات المتحدة مع أفول نجم بريطانيا وفرنسا عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر ، ثم الحلف الإسلامي عام 1965،ولقد جمعت هذه الاحلاف دولاً عربية تحكمها انظمة محافظة موالية للولايات المتحدة مثل الأردن والسعودية والعراق في فترة حكم نوري السعيد، وأخرجت من نفس نطاق الشرق الأوسط دولاً عربية رغم أنها تقع في قلب النطاق الجغرافي نفسه، مثل مصر وسوريا والعراق منذ عام 1958 واليمن منذ عام 1962.كما تغير المفهوم بعد حرب الايام الستة عام 1967 ليشمل حصرا الدول التي اشتركت في الحرب.
وتحت تأثير سياسة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر استثمرت الولايات المتحدة في عهد إدارة نيكسون سعي الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى تسوية سلمية سريعة ومنفردة مع إسرائيل، عبر فك الارتباط بين قضيتي النفط والصراع العربي - الإسرائيلي ؛ ومن جانب آخر وضعت الولايات المتحدة تصورًا للشرق الأوسط في هذه الحقبة حصرته في الأطراف العربية التي تقبل التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي بقيادة منفردة لواشنطن ومعها كل من إسرائيل وإيران الشاه وتركيا، مع التأكيد على أهمية إقامة علاقات اقتصادية وتنسيق أمني بين هذه الأطراف العربية وإسرائيل. وقد تم ذلك جزئيًّا مع توقيع أنور السادات معاهدة "سلام" منفردة مع إسرائيل عام 1979.
لقد شكل انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة مناسبة هامة لواشنطن لاعادة صياغة مشروع الشرق الاوسط وفقا لمتغيرات دولية واقليمية درامتيكية. فقد صُوِرت هزيمة النظام العراقي امام التحالف الذي قادته واشنطن لتحرير الكويت هزيمة لكل العرب، وجرّت كافة الدول العربية الى مفاوضات ثنائية ومتعددة تحت عناوين ومسميات مختلفة، وتمّ التركيز انذاك على المباحثات متعددة الطرف التي شملت كل الدول العربية تقريبًا حتى تلك التي لم تشارك في الحروب العربية – الإسرائيلية مثل دول الخليج ، وحاولت واشنطن فرض تصورها الشرق أوسطي بقضايا متداخلة بين بعدها العالمي وبعدها الإقليمي مثل التسلح واللاجئين والمياه والبيئة والتعاون الاقتصادي، مع السعي لتأسيس نماذج للتعاون والتكامل الاقتصادي والأمني على أسس جيو إستراتيجية، وجيو اقتصادية بهدف تقويض النظام الإقليمي العربي.
وفي هذا الإطار تقاطعت المصالح الأمريكية والإسرائيلية في إعادة صياغة خريطة المنطقة عبر طرح صيغة ملائمة لإدخال إسرائيل في "منطقة يسلخ عنها مواصفات الجغرافيا وسمات التاريخ الحضاري والثقافي، ويتم فيها التركيز على الجغرافيا الاقتصادية في اطار نشر مفاهيم العولمة بكافة اوجهها،عبر نواة سوق شرق أوسطية تتوسع بالتدريج انطلاقًا من إسرائيل كدور وقوة جاذبة ومهيمنة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وأمنيًّا ومدنيًّا وقد تقدم بهذا الطرح شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" وكذلك بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، حيث تم تقديم إسرائيل كدولة متقدمة وسط محيط عربي متخلف، ودولة ديمقراطية بين انظمة دكتاتورية، وكقوة عسكرية رادعة تمكنت من جلب العرب إلى طاولة المفاوضات بعد اقتناعهم بأنه لا مجال لهزيمة إسرائيل عسكريًّا. ويعتبر هذان الكتابان اللذان نشرا عامي 1995 و1996 حصيلة فعلية لما طرحته تل أبيب من قائمة مقترحات قُدمت في الاجتماع الأول لما عرف بالمفاوضات متعددة الطرف في موسكو في يناير/ كانون الثاني 1992، ثم في المؤتمرات الاقتصادية لما عرف بـ"الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في الدار البيضاء عام 1994 وعمّان عام 1995 والقاهرة عام 1996 والدوحة عام 1997.
وتضمنت المؤتمرات السالفة الذكر برامج للتعاون الاقتصادي في قطاعات ومشروعات محددة مثل المشاركة في الموارد الطبيعية والتكنولوجية والبشرية، والتعاون في ميادين البحث العلمي، وتوسيع أسواق المنطقة، وجذب الاستثمارات الخارجية من دول النفط العربية، وجذب مؤسسات التمويل الدولية للاستثمار في تطوير البنية الأساسية الإقليمية، وتأسيس صندوق إقليمي للتنمية في الشرق الأوسط. كما تقدمت اسرائيل أيضًا بمقترحات للتنسيق الأمني بينها وبين الدول العربية، وصولا إلى إقامة نظام للإنذار المبكر يقوم على جمع وتبادل المعلومات الاستخبارية والأمنية بينها وبين الأطراف العربية، وبما يكفل عدم حدوث أزمات مفاجئة وإدارة الأزمة وقائيًّا في حال حدوثها.
وقد تمكنت إسرائيل من تحقيق نجاح جزئي بدعم تام من الولايات المتحدة وتركيا في مجال التطبيع الاقتصادي وتوقيع معاهدة "سلام" مع الأردن في وادي عربة عام 1994 والتوصل لإعلانات أوسلو بين أعوام 1993 و1995 مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وبادرت دول الخليج العربي وتونس والمغرب بفتح مكاتب تمثيل تجاري لإسرائيل لديها، وزادت وتيرة التطبيع السري والعلني، ومن جانبها أقدمت دول الخليج على إلغاء المقاطعة الاقتصادية من الدرجتين الثانية والثالثة، أي مع الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل أو لها فروع فيها.وهكذا يمكن ملاحظة أن الشرق اوسطية كمشروع أمريكي - إسرائيلي توسّع ليضم مختلف الدول العربية.
ومن اللافت للنظر أن معظم النظم العربية - عدا سوريا ولبنان- سارعت إلى الدخول في هذا المشروع الموسع تحت أوهام عديدة منها أن إدراج إسرائيل في منظومة شرق أوسطية قائمة علي التعاون والتكامل الاقتصادي والمشروعات السياحية والتنموية المشتركة، وخصوصًا بين مصر وإسرائيل والأردن مع ضغط القاهرة وعمّان على السلطة الفلسطينية للانضمام إليها، من الممكن أن يدفع تل أبيب لتنفيذ التزاماتها الواردة في إعلانات أوسلو بشأن القضية الفلسطينية، وخصوصًا أن معظم النظم العربية توافقت ضمنًا مع بعضها البعض من جهة، ومع تل أبيب وواشنطن من جهة أخرى على الحيلولة دون عودة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل وبالطبع رفضت تل أبيب وواشنطن هذه "المقايضة" وصممتا على الفصل بين التطبيع الثنائي والإقليمي وبين التسوية السلمية للصراع على الجبهات الفلسطينية واللبنانية والسورية ، لكن ذلك الرفض لم تقابله النظم العربية الداخلة في المشروع الشرق اوسطي بتجميد روابط واتصالات التطبيع مع إسرائيل لإدراكها أن بقاء صلات ما بتل أبيب مدخل مهم للغاية لاستمرار علاقاتها الجيدة مع واشنطن، بل إنها التحقت بـ"التجمع الشرق الأوسطي الموسع" بالمفهوم الأمني الذي أرادته له كل من واشنطن وتل أبيب عندما حضرت معظم الحكومات العربية ما سُمِّي "مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب"، والمقصود "الإرهاب" الفلسطيني خاصة بعد عمليات استشهادية عديدة استهدفت تل أبيب وعسقلان في عام 1996.وتجمدت مشاريع الشرق اوسطية مع وصول الليكود الى الحكم في اسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو.
وقد شكلت هجمات الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر 2001 والعدوان على العراق واحتلاله والإطاحة بنظام صدام حسين مناسبة هامة لواشنطن لفرض تصوراتها عما أسمته "الشرق الأوسط الكبير" والذي يقوم على إعادة صياغة كاملة للخريطة الجيو إستراتيجية للمنطقة العربية تتضمن القضاء على ما تبقى من بقايا النظام الإقليمي العربي، والعمل على طمس المقومات الثقافية/ الحضارية عروبية وإسلامية للوطن العربي عبر تذويب هذا الفضاء السياسي الجغرافي التاريخي الثقافي المشترك في نطاق إستراتيجي أوسع يمتد من بحر قزوين وشمال القوقاز شمالاً وشرقًا إلى المغرب غربًا.وقد استندت الادارة الاميريكية إلى مزاعم برغماتية غير متناسقة ومن أهمها أن "الشرق الأوسط" هو منطقة الاضطراب الكبير في العالم ومصدرا للمشكلات والتهديدات القديمة الجديدة للأمن القومي الأمريكي مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والأصولية والتطرف والهجرة غير المشروعة.إلى جانب ما كرره المسئولون الأمريكيون، بدءاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش ، ونائبه ديك تشيني إلى وزير الخارجية كولن باول، إلى مستشارة الأمن القومي كوندا ليزا رايس إلى وزير الدفاع رامسفيلد ومستشاره "بيرل" ووكيل الوزارة "دوجلاس فايث" وغيرهم، استنادا الى دراسات وتقارير قدمتها مراكز بحوث يمينية مثل "مؤسسة أمريكان إنتربرايز" و"مؤسسة هيريتاج"، ومفادها أن الطابع السلطوي للانظمة العربية الحاكمة في دول كبيرة مثل مصر والسعودية وغيرهما إلى جانب مناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية والفساد السياسي والمالي، وكذلك غلبة أنماط التفكير غير العصرية، تُعَدّ كلها مسئولة عن انتشار التطرف والإرهاب والتعصب وكراهية الولايات المتحدة والغرب وموجات الهجرة إلى الدول الغربية والحرمان الاقتصادي والاجتماعي.
لقد اتخذت الادارة الامريكية على عاتفها مهمة إعادة الهيكلة الشاملة للوطن العربي والعالم الإسلامي فيما يعرف الآن بمشروع "الشرق الأوسط الكبير". وكانت إدارة بوش قد خيرت العالم كله بين تأييد ما يسمى الإرهاب أو محاربته، وحاول بوش الربط بين الإرهابيين وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وصمم على أن تحتكر إدارته وحدها تحديد التهديدات المختلفة، ولم يقبل بمشاركة الآخرين بمن فيهم الحلفاء الأوربيون أنفسهم في ذلك التحديد.
لقد قبلت معظم الدول العربية الدخول في مشروع الشرق الأوسطي عندما اقتصر على التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني، بل وتسابقت على المشاركة فيه، لكن عندما توالت تصريحات وأفكار إدارة بوش الابن عن أن الشرق الأوسط الكبير هدفه الرئيس إدخال الشرق الأوسط في دائرة الدمقراطية العالمية بوفقا للرؤية الأمريكية وبالقوة ودون مراعاة لمواقف بعض الحلفاء، عبّرت هذه الانظمة عن استيائها من التصميم الأمريكي، وذكرت أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج، مع أن غالبية سياسات وقرارات هذه الانظمة إنما جاءت وطبقت أساسًا بناء على ضغوط وإغراءات خارجية أمريكية تحديدا. ويمكن تفسير ذلك من قراءة جوهر مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي ستقدمه إدارة جورج بوش إلى قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى القادمة في جورجيا بالولايات المتحدة التي ستعقد في يونيو/ حزيران 2004.
وكانت واشنطن قد أجرت مناقشات عديدة مع بعض الوزراء الأوربيين في العاصمة واشنطن بهدف أن يكون الموضوع الرئيس على جدول أعمال تلك القمة. وحتى يتم التنسيق بين التصورين الأمريكي والأوربي الذي تقدمت به ألمانيا في فبراير/ شباط 2003 إبان القمة الأوربية التي عقدت في ألمانيا والتي دعت إلى إصلاح ديمقراطي في الشرق الأوسط وأساسًا في الدول العربية،من الداخل إلى جانب مشروع تنمية متكامل وإصلاح عربي وتنمية مستدامة وأثارت المبادرة الألمانية أيضًا أهمية قضية المعرفة.
وبتقديرنا يعتبر مشروع الشرق الأوسط الكبير عبارة عن أفكار هلامية غير معدة جيدًا ومتناثرة ولا تشبه خطة محددة أو مشروعًا متكاملاً، فمن أهم ملامح الجانب المتعلق بالتغيير الديمقراطي الذي تريده واشنطن هو ما تحدث عنه بوش في خطابه في السادس من نوفمبر 2003 عندما وصف المجتمع الديمقراطي الناجح بأنه مجتمع يضع حدودًا بين سلطة الدولة وسلطة الجيش؛ وبهدف الى تمكين الحكومة من الاستجابة لإرادة الشعب بدلاً من الاستجابة لإرادة النخب فقط، وهو المجتمع الذي يشجع قيام المؤسسات المدنية السليمة وتشكيل الأحزاب ونقابات العمال ووجود الصحف ووسائل الإعلام المستقلة، أما اقتصاد هذه المجتمعات فهو قائم على اقتصاد القطاع الخاص ويضمن حق الملكية الفردية ويعاقب الفساد ويخصص الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم للمواطنين ويعترف بحق المرأة، وبدلاً من توجيه مواطنيه نحو كراهية ورفض الآخرين يسعى إلى تحقيق آمال شعبه.
وبهذا المعنى أيضًا قدم كولين باول وزير الخارجية مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق اوسطية، وإلى جانب القضايا الاقتصادية التي تتشابه مع ما ورد في خطاب بوش سالف الذكر، ذكر باول أن هذه المبادرة صممت لدعم الرجال والنساء والشباب في الشرق الأوسط في سعيهم نحو الديمقراطية والحريات المدنية وحكم القانون ومساعدة المنظمات غير الحكومية والأفراد المنتمين إلى جميع الفئات السياسية العاملين في سبيل الإصلاح السياسي من خلال آليات كصندوق ديمقراطية الشرق الأوسط.
ورغم أن المبادرة تعرضت لقضية الإصلاح التعليمي، فإنها أشارت فقط الى برامج تعلم القراءة والكتابة وتحسين سبل اكتساب المعرفة ومنح دراسية للبكالوريوس في الولايات المتحدة، أما هدف تغيير نظم ومناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية فقد ورد غالبًا في تقارير كشف النقاب عنها، والغرض من وراء ضغوط وإغراءات إدارة بوش وراء ذلك متعدد من أهم جوانبه العمل على إنهاء الكراهية والتعصب ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عمومًا باعتبار أن هذه النظم والسياسات كما تزعم إدارة بوش هي المسئولة عن تفريخ الإرهابيين وتشكيل وعيهم .
واذا كانت هذه الصورة التاريخية تدل على بعض خلفيات المشروع، فاننا نورد بعض الملاحظات التي تكشف المزيد من النوايا غير المعلنة التي سعت واشنطن وتسعى لتحقيقها وابرزها:
- لقد جاء المشروع كنتاج لهزيمة النظام العراقي وسقوطه ، وتعميم الهزيمة العراقية على كافة الدول العربية في محاولة لابتزاز المواقف من الدول التي لم تزل تمانع وتقاوم المشاريع الاميريكية – الاسرائيلية في المنطقة.
- وبعد ان هدف مشروع الشرق الاوسط الجديد في منتصف التسعينيات الى دمج اسرائيل في المحيط العربي، يهدف مشروع الشرق الاوسط الكبير الى دمج الدول العربية في بيئة المفاهيم والاستراتيجيات الاسرائيلية في المنطقة.
- القضاء نهائيا على النظام الاقليمي العربي المتمثل في آليات تعاوان الجامعة العربية ، وانشاء بدائل منها تتلائم وتتوافق مع المعطيات الاقليمية الجديدة.
- تذويب مقومات الحضارة والثقافة العربيتين عبر ادخال مجموعات من الدول غير العربية في نظام اقليمي فضفاض وواسع المهمات والاهداف بحيث يسهل استغلال او تمرير أي امر تريده واشنطن وتل ابيب.
- محاولة جعل المشروع في حال نجاحه تجمعا مواجها لدول وتجمعات اقليمية هادفة الى لعب ادوار واعدة في النظام العالمي . أي بمعنى ان يكون هذا المشروع مواجها لمشروع الاتحاد الاوروبي وعلى تخوم روسيا والصين بعدما تمّ توسيع حلف شمال الاطلسي ليضم كافة الدول الاوروبية الشرقية سابقا.
- وفيما يتعلق بالاصلاح والديموقراطية والتنمية وحقوق الانسان وتمكين المرأة وغيرها من القضايا، فجميعها تعتبر من باب الحق الذي يراد به باطل. فعلى الرغم من اعترافنا بالحاجة الماسة لتلك الاصلاحات في انظمتنا ، فان شكوكا واسئلة كثيرة تطرح نفسها وتحتاج الى اجابات واضحة ومنها: هل ان الاصلاح من الخارج وبالقوة يمكن ان يؤتي ثماره المرجوة؟ وهل في الاساس ان من مصلحة واشنطن ان تكون انظمتنا العربية انظمة ديموقراطية تعرف كيف تحكم جماهيرها وتقدم لهم ما هو خير لمصلحتهم؟ وأكثر من ذلك هل من مصلحة الولايات المتحدة ان تمتلك شعوب المنطقة العربية العلم والتكنولوجيا الكافية لاستقلالها الفعلي؟
صحيح اننا في منطقة فيها الكثير من النعم وهذا ما يفسر اهتمام الكثيرين بنا، وصحيح ايضا اننا شعوب متخلفة بسبب انظمتنا وليس بقلة طاقاتنا وقدراتنا ، وصحيح ايضا وايضا اننا بحاجة لكل شيء ، الا اننا لسنا بحاجة الى إلباسنا المريول وسوقنا الى المدارس الامريكية لتثقيفنا الديموقراطية الامريكية، كما لسنا بحاجة حتما الى ديموقراطية التوما هوك والكروز الذي تسقطه على رؤوسنا بالقوة.
ان افظع الاخطاء المميتة التي وقعت فيها الامبراطوريات عبر التاريخ، انها وضعت نفسها في جهة والشعوب الاخرى في جهة ثانية وراحت تحاول الباسها ما تشاء وفقا للمقاييس التي تراها مناسبة، الامر الذي ادى الى اشعال الثورات ضدها وانهيارها، وهذا ما سيحدث حتما للامبراطورية الامريكية التي لا زالت تكافح وتعاند التاريخ والجغرافيا معا.