13‏/02‏/2008

اشكالية العلاقات اللبنانية – السورية
ومعاهدة الاخوة والقرار 1559

د. خليل حسين
استاذ المنظمات والعلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني


لم تعد قضايا العلاقات الدولية وتحديد اطرها العامة بمعزل عن اهداف ومصالح الشعوب، بل ان الامر الذي اكتسب اهمية كبرى هو التأثير المباشر للشعوب والامم في توجيه سياسات أنظمتها مع غيرها من الكيانات السياسية وفقا للمنظور الذي يتماشى مع مصالحها الحيوية السياسية والاقتصادية والامنية ؛ واذا كان الامر يبدو بهذه الصعوبة في مجال العلاقات بين الدول المختلفة في اصولها القومية والحضارية ، فان الامر في احيان كثيرة تبدو اكثر صعوبة في مجال العلاقات بين الدول ذات الاصول القومية والحضارية الواحدة ، خصوصا عندما تنبري بعض الاقليات في تمييز نفسها حفاظا على مصالح خاصة لا تمت بصلة الى محيطها الاوسع الذي بامكانه ان يؤمن حمايتها وضمان وجودها الفاعل في حال وجدت اصول التفاهم على القضايا المصيرية وأجواء الثقة والتفاهم المتبادلين.
اولا : خلفيات اشكالية العلاقات اللبنانية - السورية
اتخذت العلاقات اللبنانية – السورية اشكالا واحجاما مختلفتين منذ الاعلان عن انشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920 ، وخضعت مستويات العلاقة وتطورها بين البلدين الى مجمل عوامل داخلية وخارجية متصلة بهما ، ساهم بعضها في تقاربهما وساهم بعضها الآخر في تباعدهما ؛ الا ان الثابت بين الحالتين ،ان لبنان كان دائما الطرف الذي يبدو بحاجة الى تمميز العلاقة ورقيها نظرا للموقع الجيو سياسي الذي تتمتع به سوريا تجاه لبنان
ولهذا ظلت العلاقات بين البلدين احد اهم محاور السياسة الخارجية والذي حاول لبنان ان يضع لها الاطر العامة في محاولة منه لانتزاع "صفة الاستقلال" كما يفهمها بعض فئاته وطوائفه ؛ هذا الواقع وان حاول لبنان انتهاجه على الصعيد النظري خلال فترات معينة من تاريخه السياسي الا انه لم يحقق أي تقدم لما هدف وسعى اليه بقوة في بعض الفترات ، ذلك يعود الى انعدام الثقة المتبادلة بين البلدين في مختلف العهود التي تعاقبت على السلطة في الدولتين مع وجود بعض الاستثناءات مثال الفترة التي حكم فيها حزب الشعب في سوريا المقرب من بغداد ، والذي ترافق مع النصف الاول لولاية الرئيس كميل شمعون الموالي للغرب في لبنان ،وكذلك الفترة التي اعقبت اتفاق الطائف في بداية التسعينيات.
فالسمة العامة للعلاقة ظهرت في مستوى الشكوك المتبادلة ، فالسوريون اعتبروا ان بعضا ممن تعاقبوا على حكم لبنان ساروا في خط موال لسياسة الغرب في المنطقة العربية ، وبالتالي كان الحكم في لبنان مصدرا دائما للقلق السوري وأمنها واستقرارها ، قابله خوف وحذر لبنانيين تمثل في موقف الاحزاب اللبنانية المحافظة والمدعومة بشكل عام من الطوائف المسيحية التي ابرزت موضوع السيادة اللبنانبة وضرورة اعتراف سوريا باستقلال لبنان كما تعترف بأي دولة عربية اخرى .
ان استعراض مفاصل الاحداث التي تحكمت في مستوى العلاقة ، تبرز الخلفيات التي ظهرت لتبرير السلوك السياسي الذي اتبع في مجرى معالجة القضايا التي تهم البادين ، والتي لها علاقة بالبلدان العربية الاخرى.
فمن الملاحظ ان الفترة التي سبقت استقلال البلدين عن فرنسا كان للكتلة الوطنية التي حكمت سوريا انذاك دور كبير في اقناع المسلمين اللبنانيين في الانضواء تحت سلطة الدولة اللبنانية وتخفيف حدة المطالبة بالوحدة مع سوريا ، وقد اعقب ذلك وتحديدا بعد العام 1936 اشتراك المسلمين اللبنانيين في تدبير شؤون لبنان على مستوى رئاسة الحكومة ، بل ان هناك من يذهب الى ابعد من ذلك ويعزو ظهور الميثاق الوطني في لبنان الى الدور الذي لعبته سوريا في هذا الاتجاه ؛ بمعنى آخر ان تخلي سوريا عن الاقضية الاربعة التي ضمت الى لبنان الكبير في العام 1926 يهدف بشكل او بآخر الى اقامة نوع من التوازن الداخلي في لبنان وتركيز دعائم الوحدة الوطنية اللبنانية واستقرار السلطة والنظام في تلك الفترة، سيما وان البلدين كانا بحاجة ماسة الى الحفاظ على الاستقلال الطري العود.
بيد ان التفاهم الذي ساد عهد الرئيس بشارة الخوري والنصف الاول من و لاية الرئيس كميل شمعون ، ما لبث ان تبدد بفعل الظروف الدولية والاقليمية التي سادت فترة الخمسينيات ؛ فانحسار النفوذين الفرنسي والبريطاني في المنطقة ، اوجدا تزاحما شديدا بين موسكو وواشنطن" لملء الفراغ " ما اظهر حماسة اميركية شديدة لايجاد الاحلاف العسكرية بهدف تأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بدءا من حلف النانو وانتهاءا بمشروع ايزنهاور ، اضافة الى ذلك فان الاوضاع العربية انذاك لعبت دورا أساسيا في اهتزاز العلاقات بين البلدين ، فالمد القومي الذي قاده عبد الناصر والذي توجه بالوحدة مع سوريا ، ألّهب مشاعر المسلمين الدفينة بالمطالبة بالوحدة مع سوريا، الامر الذي اعتبره الفريق الثاني بمثابة الارتداد عن الاستقلال الذي تمّ التوافق عليه في العام 1943.
ان التأثيرين الاقليمي والدولي على العلاقات بين البلدين لايلغيان بالضرورة دور الظروف الداخلية اللبنانية التي تفاعلت وأثرت بدورها على مجرى العلاقات ، فمواقف الحكم وخصوصا الرئيس كميل شمعون وسامي الصلح وقيادات الاحزاب المحافظة من السياسات الخارجية المتعلقة بالامن القومي العربي ، اعطت فرصة اخرى للتيار القومي العربي الى التطلع الى محيطه الاوسع خصوصا بعد استقدام الرئيس كميل شمعون للقوات الامريكية "المارينز" وانزالها في بيروت عام 1958 ، الامر الذي اعتبرته الجمهورية العربية المتحدة ( مصر وسوريا ) بمثابة الممر لضرب القوى التقدمية العربية عبر لبنان
ان اولى النتائج التي ترتّبت عل اهتزاز صيغة العلاقات اللبنانية – السورية كانت على لبنان ، فمن احداث 1958 وتفسخ الوحدة الوطنية انذاك ، الى شعور راود المسلمين بغربتهم عن النظام والدولة ، مما دفع بغالبية التيارات السياسية التي تمثلهم الى البحث عن العمق الاستراتيجي العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص املا بالحماية المنشودة في الدولة التي ارتضوا بها على مضض في السابق وباتت محتو ضيق لتطلعاتهم ومصالحهم .
اذن ، ان الصدمة التي تلقتها العلاقات بين لبنان والاقليم السوري في الجمهورية العربية المتحدة كانت البداية الاولى في مسلسل اختلال التوازن الداخلي الهش القائم منذ العام 1943 ، وكانت الوحدة السورية المصرية بنظر الاحزاب المحافظة بمثابة الخطر الاكبر على الكيان اللبناني الطري العود انذاك ، ومن هنا يمكن تفسير الموقف السياسي الذي اتخذه الحكم بدعم قوي من الاحزاب المحافظة لايصال الازمة الى المحافل الدولية بعد افشالها في الجامعة العربية ، كما انه في نفس الوقت من الصعب تجاهل الموقف السوري الداعم للقوى التقدمية ماديا ومعنويا والذي ساهم الى حد كبير في ايصال الامور الى نقطة اللارجوع .
الا ان التفهم الخاص الذي ابدته مصر الى الواقع اللبناني الخاص ، لا سيما الدور الذي لعبه الرئيس جمال عبد الناصر انذاك قد ساهم في ارساء اسس جديدة من التعاون والتفاهم بين القطرين اللبناني والسوري بعدما تم انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا للبنان في ايلول 1958 ، وهنا لا يمكن اغفال دور الرئيس فؤاد شهاب وتفهمه لواقع لبنان ومحيطه العربي في تهدأة المسلمين اللبنانيين ومن يدعمهم من تيارات سياسية لجهة ميلهم بالفطرة الى مصر وسوريا ومن دون ان يغفل او يلجم الخوف المسيحي من القضايا العربية المركزية كالوحدة والصراع العربي – الاسرائيلي وغيرها من العناوين التي كانت تثير حفيظة قسم كبير من المسيحيين اللبنانيين ، وهذا ما اثبتته الوقائع اللاحقة في العهد الشهابي الثاني الذي قاده الرئيس شارل حلو .
ان قضية تحويل مياه روافد نهر الاردن التي مشت فيها اسرائيل قدما ، وما اعقبها من مقررات القمتين العربيتين الثانية والثالثة قد اوجوبت على لبنان التزامات عسكرية استدعت التنسيق والتشاور مع سوريا في هذا المجال بما فيه وجود قوات عسكرية سورية في بعض مناطق جنوب لبنان لحماية المنشئآت العربية التي قدمت للبنان لاستغلال مياهه، هذا الموقف لاقى ترحيبا ودعما للحكم من قبل القوى التقدمية قابله تحفظ من الاحزاب المحافظة وامتعاض من سياسة الحكم وعلاقاته العربية والمتمثل بالمزيد من الانفتلح على سوريا .
ان ظروف ولاية الرئيس شارل حلو لا سيما النصف الثاني منها والتي شهدت احداثا هامة فيما يتصل بالصراع العربي – الاسرائيلي ، اضافة الى التغير الحاصل في موازين القوى العربية وانعاكاساتها على الوضع الفلسطيني بخاصة ؛ وذيول الحرب الثالثة والاحداث الدامية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الاردني ، معطوفة على العمل العسكري للمقاومة من جنوب لبنان ، جميع هذه العناصر استغلتها القوى المحافظة (الحلف الثلاثي،الكتائب والاحرار والكتلة الوطنية) بهدف اعادة النظر في مستوى العلاقة مع سوريا والتأسيس لنوع جديد منها اذا امكن .
ان اقصاء الشهابيين عن سدة الرئاسة في لبنان ووفاة الرئيس المصري عبد الناصر ووصول الرئيس حافظ الاسد الى السلطة في دمشق معطوفة على انتقال الثقل العسكري الفلسطيني من الاردن الى لبنان ، وبروز محاور عربية جديدة اساسها الخلاف على تسوية الصراع العربي -الاسرائيلي خصوصا بعد العام 1973 ، جعل الثقل السياسي الشرق اوسطي ينتقل من القاهرة الى دمشف هذه المعادلة الجديدة ظلت تتحكم بمسار العلاقات اللبنانية - السورية بعد العام 1970 ، وبشكل ادق بعد العام 1975 تاريخ اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية .
فالذي كان مقبولا بنظر دمشق بخصوص السياسات اللبنانية الخارجية العربية منمها بشكل عام والمتعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي بشكل خاص بات في النصف الثاني من عقد السبعينيات امرا غير كاف لابقاء العلاقات بين دمشق وبيروت على مستوى عال .
فنزوع مصر نحو نهج التسوية المنفردة مع اسرائيل الذي بدأ باتفاق فصل القوات بين الدولتين وانتهاء بمعاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية اضافة الى ميل منظمة التحرير الفلسطينية بقواها السياسية والعسكرية الىتكوين نواة سلطة مستقلة في لبنان تتيح لها هامشا كبيرا للتحرك بمعزل عن أي عقبات عربية ، اوجب على سوريا في العام 1976 اعادة النظر في سياستها تجاه لبنان ، ومنظمة التحرير بتغطية عربية في مؤتمري القاهرة والرياض .
لقد كانت السياسة السورية محكومة بخيارين لا ثالث لهما ، فاما ان تترك القوى التقدمية اللبنانية ومنظمة التحرير سائرتان في سيطرتهما الكاملة على لبنان ، وبالتالي تركهما عرضة للتجاذبات العربية المتداخلة وبالتالي ايجاد الفرصة الذريعة لاسرائيل التوسع في لبنان للجم هذا التمدد ، واما التدخال العسكري لضبط الوضعين اللبناني والفلسطيني بانتظار ما ستؤول اليه اوضاع المنطقة برمتها ، فالخيار الثاني بالنسبة لدمشق كان اقل ضررا من الاول ، فهي وان وقفت الى جانب القوى المحافظة اللبنانية لاعادة التوازن الداخلي اللبناني الى نصابه وخسارتها مرحليا حليفين اساسيين لها في لبنان ، فانها كسبت ورقة متقدمة في موافع الصراع العربي – الاسرائيلي ؛ فسياسيا امسكت الى حد بعيد بالورقتين اللبنانية والفلسطينية في أي تسوية مستقبلية وعسكريا منعت ولو مرحليا الدخول الاسرائيلي العسكري على خط الازمة اللبنانية .
لقد تأثرت العلاقات اللبنانية - السورية ما بين الاعوام 1976 و1982 بتجاذبات الاطراف اللبنانية بالنسبة للدور السوري في لبنان وخاصة الوجود العسكري ؛ فالمطالبون بدعم القوات السورية في لبنان تأثروا الى حد بعيد بمعطيات الاجتياح الاسرائيلي في العام1978، وكان هذا الدخول العسكري الاسرائيلي على خط الازمة اللبنانية بمثابة الاشارة الاولى لامكانية تغيير موازين القوى الداخلية من جديد الامر الذي استغلته 0الجبهة اللبنانية واداتها العسكرية القوات اللبنانية في مواجهة الوجود السوري في لبنان ، ومن هنا كانت معارك الاشرافية عام 1978 التي اعادت النظر بانتشار القوات السورية في شرق بيروت ومن بعدها حاولت اعادة اللعبة ذاتها في زحلة 1981 ، ولم يقتصر التجاذب بين الفئات الحزبية ، فتعداه الى تبني الحكم لموقف القوات اللبنانية ازاء تلك المواقف وبذلك انتقلت المجابهة بين الاطراف اللبنانية والسوريين الى التوتر في العلاقات بين الحكمين وخصوصا بعد العام 1980.
فالمنطقة كانت تقف على مفترق طرق ، اما المضي في التسوية السياسية وفقا للمنظور الامريكي الاسرائيلي ، واما الصمود في وجه تلك المخططات وبالتالي تحمل المزيد من الضغوط والاعباء الداخلية خصوصا في لبنان ، الا ان الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 ، اوجد معطيات جديدة اثرت بشكل سلبي على العلاقات اللبنانية السورية ومنها الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي وادخال القوة المتعددة الجنسيات ، اضافة الى الضغوط السياسة التي تعرضت لها القوى الحليفة لسوريا تقليديا ؛ وعلى الرغم من تسجيل مجمل تراجعات وانكفاءات للمشروع الامريكي -الاسرائيلي في لبنان الا ان النهج الذي اتبعه الرئيس الاسبق امين الجميل في علاقاته مع سوريا لم يبرز أي تحسن يذكر ، فلا اسلوب اللقاءات على مستوى القمة وقد وصلت الى ثلاث عشرة قمة ، ولا دخول بعض حلفاء سوريا في الحكم كان قادرا على تغيير مسار الحكم ، وكانت المقاطعة احدى المظاهر الداخلية السلبية لتلك المرحلة .
ان اسلوب المراوغة والمراهنة على متغيرات اقليمية ودولية اللذين سادا طوال ولاية الرئيس امين الجميل ، كانا االسببان اللذان اسديا ظلالا كثيفة على مستوى العلاقات بين البلدين وأديا في مرحلة لاحقة الى اعلان حرب التحرير من قبل بعض الاطراف اللبنانية في الحكم او خارجه ، اذ كانت المرة الاولى التي يدخل فيها بعض اطراف الحكم في لبنان بمواجهة عسكرية مفتوحة مع السوريين في لبنان
ثانيا : اشكالية العلاقة بين البلدين
ان الخلفيات التي وقفت وراء توتير العلاقات بين البلدين في معظم الاوقات ناجمة عن تباعد وجهتي النظر السورية واللبنانية ازاء بعض القضايا المركزية العربية اضافة الى عوامل داخلية لبنانية . هذان الامران لا يخفيان ايضا عوامل اخرى هامة لا تتعلق بهما بشكل مباشر ، ومنها النزاعات العربية المتداخلة في لبنان والدخول الاسرائيلي الدائم على خط العلاقة بينهما ، اضافة الى استغلال القوى الدولية المؤثرة في المنطقة لبعض الاطراف اللبنانية لتأزيم العلاقة بهدف ابتزاز مواقف معينة من سوريا ، اما تفاصيل هذه الخلفيات فأبرزها :
1- ان موقف لبنان الرسمي بالنسبة لقضايا الصراع العربي – الاسرائيلي لم يترجم عمليا في مختلف العهود الرئاسية التي تعاقبت على الحكم في لبنان منذ الاستقلال وحتى بداية التسعينيات ؛ الامر الذي تسبب في نشوء ازمتين داخلية وخارجية كانتا غالبا ما تؤثران على وحدته الوطنية ؛ فداخليا لم تكن الاحزاب التقدمية المدعومة من المسلمين بشكل عام مقتنعة بمحدودية امكانات لبنان بهدف ابقائة في مجموعة البلدان " المساندة " في الصراع العربي - الاسرائيلي ، الامر الذي جعلها تتجه تلقائيا الى القطب الفاعل بخصوص هذه القضية وغالبا ما كانت دمشق الوجهة التي تبحث عنها هذه القوى ؛ وخارجيا وان كانت بعض البلدان العربية تتفهم وضع لبنان الخاص ومنها سوريا فان الامر بالنسبة للاخيرة يعتبر مغايرا ومتمايزا عن غيرها لاعتبارات عدة منها ما يتعلق بالوضع العربي العام ونظرته الى الصراع مع اسرائيل ، ومنها ما يتعلق بوضع لبنان الجغرافي وما يؤثر هذا الوضع على سوريا .
فدمشق التي ارتضت في فترة من الفترات بأن لا يكون لبنان من الدول المواجهة اعتبرت ايضا ان حدود المشاركة او عدمها لا يعني بالضرورة خروجه نهائيا من دائرة الصراع العربي - الاسرائيلي ، وبالتالي فان على لبنان ان يتفاهم ويتعاون الى اقصى الحدود مع دمشق قبل القيام بأي خطوة ممكنة بالنسبة لهذه المسائل ؛ فمبدأ امن لبنان من امن سوريا يعتبر امرا استراتيجيا سوريا من الصعب ان تتجاهله ، ومن هنا يمكن تفسير الموقف السوري المتشدد ازاء الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي الذي حمل في جوهره ابعاد لبنان نهائيا عن دائرة الصراع ، وحتى الانطلاق بفكرة حياده القانوني إلى المستويين الاقليمي والدولي .
2- ان الخلافات التي نشبت في النصف الاول من فترة السبعينيات والتي ادت الى تقطيع اوصال التعاون العربي بشكل حاد ، ساهمت هي الاخرى في نشوء محاور عربية متنافسة على قيادة الوطن العربي ، وسعي كل محور الى استقطاب البلدان ذات الامكانات المحدودة ، وبغض النظر عن وجود مصلحة اوعدم وجودها لتلك البلدان بالذهاب بعيدا مع المحور المستقطب ، فان هذا الامر اثار سجالا واسعا حول الروابط التي تحكم بعض البلدان العربية وتميزها عن غيرها من البلدان التي تجمعها وحدة القومية والحضارة ، ومن هذا السجال ايضا العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا .
فلا البيانات الوزارية اللبنانية اغفلت هذه المسألة وضرورة تطويرها منذ الاستقلال وحتى اليوم ، ولا التصريحات والمواقف من القيادات السياسية في كلا البلدين قد تجاهلت هذا الامر ، وعلى الرغم من ذلك ان العلاقة المميزة لم يحسم امرها وترجمتها عمليا الا في فترات لاحقة وخصوصا بعد " معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق " وان كانت طرحت بشكل رسمي في عهد الرئيس سليمان فرنجية عبر الوثيقة الدستورية ، ومبادىء الوفاق الوطني في عهد الرئيس الياس سركيس، ومشروع اتفاق الحل الوطني في عهد الرئيس امين الجميل .
3- ان عدم الرضى الذي اظهرته الفئات اللبنانية عن تركيبة النظام اللبناني وحصص بعض الطوائف في هذه التركيبة ، ونظرا لعدم الجدية التي سادت مختلف القيادات السياسية في لبنان لاصلاح الخلل القائم من جهة وعدم قدرة أي طرف من اطراف النزاع الداخلي على حسسم الامور لمصلحته ، دفع بكل الاطراف الى الاستقواء بأطراف خارجيين لتحسين مواقعه الداخلية وفرض ما يريد ، الامر الذي جعل دمشق في احيان كثيرة تعتبر الطرف المستقطب للقوى التقدمية في لبنان لدعم مواقفها وبرامجها من قضايا الاصلاح ، مما اثار حفيظة القوى الاخرى ، وبالتالي سعيها الى توتير العلاقات مع سوريا وفي معظم الاحيان لجوء هذا الطرف الى محاور عربية منافسة لدمشق وحتى التحالف مع قوى اقليمية معادية للعرب ولسوريا.
وبعبارة اخرى ان تعقيد وتشابك الازمة اللبنانية بوجهيها الداخلي والخارجي ، ربط في احيان كثيرة قضايا اصلاح النظام السياسي بقضايا خارجية اخرى ، كانسحاب القوى العسكرية غير اللبنانية من لبنان والسيادة الوطنية وتحديد اطر السياسة الخارجية اللبنانية ، الامر الذي اضاف عناصر اخرى لتعقيد الازمة بدل المساعدة في حلها .
4- ان عدم الواقعية التي تعاطى بها بعض القادة اللبنانيين في طبيعة العلاقة مع سوريا وتجاهل دور سوريا وموقعها الاقليمي المستجد ، جعل القيادة السورية تواقة الى ايجاد الاطر القانونية الكفيلة بتطبيع العلاقات على مختلف الصعد بشكل يبعد أي مزاجية لبنانية طارئة تحاول الالتفاف بشكل مسيء الى هذه العلاقات ، الامر الذي نظر اليه البعض على ان هذه المحاولة هي من قبيل الاحتواء القسري للبنان من جانب سوريا ، وشأن يقيد القرار اللبناني الحر والمستقل ويدفعه باتجاهات مغايرة لإسس الكيان التي من اجلها انشىء وتوافق عليه فئاته وطوائفه .
ثالثا : تجربة الاتفاقات بين البلدين
سبق للبلدين قبل التوقيع على معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق ان عقدا ثلاث اتفاقيات شملت مواضيع مختلفة ، وعلى الرغم من صفة الشمولية التي رعتها هذه الاتفاقات ، الا ان هذه الاخيرة قد وسعت من نطاقها وأعطتها ابعادا جديدة تصل الى حد " التكامل " وان لم تذكر في متن المعاهدة بشكل صريح .
فالاتفاق الاول الذي عقد في الاول من تشرين الاول 1943 حول "ادارة المصالح المشتركة" كان قد قسّم هذه المصالح الى قسمين : القسم الاول الذي يجب ان يدار بمشساركة الطرفين كمصالح الجمارك ومراقبة الشركات ذات الامتياز التي تشمل عملها اراضي البلدين ومراقبة ادارة حصر التبغ والتنباك ، والقسم الثاني ما تترك ادارته لكل من الحكومتين ضمن اراضيهما، كمصلحة البارود وحماية الملكية الصناعية والتجارية، ومصلحة الاشغال العامة والبريد والبرق والدفاع والامن ، وكل مصلحة لم تذكر في القسم الاول ، وتنقيذا لهذا الاتفاق تمّ انشاء " المجلس الاعلى لادارة المصالح المشتركة " واهم اعماله كانت ادارة الجمارك التي ظلت واحدة .
لقد اعتبر هذا الاتفاق انذاك مكملا لاستقلال لبنان واعتراف سوريا بلبنان الكبيرالذي اصر في محادثات مؤتمر الاسكندرية لصياغة ميثاق الجامعة العربية على ذكر بند خاص ينص على الاعتراف باستقلال لبنان ، والذي استعيض عن هذا النص ببند ينص على عدم التدخل بسياسات الدول العربية الداخلية والخارجية ، وبذلك كان بمثابة الاعتراف السوري باستقلال لبنان ، ولقد كرّس هذا الامر فيما بعد بعدم اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين .
الا ان انقلاب حسني الزعيم في العام 1949 قد مهد الى الانفصال الجمركي بين البلدين والذي يعتبر المصلحة الاساسية التي اديرت بين البلدين بموجب اتفاق 1943 وقد اعلنت دمشق في العام 1950 الغاء هذا الاتفاق من جانب واحد . وبذلك كانت بداية القطيعة الاقتصادية بين البلدين بعدما امّن ذلك الاتفاق الحد الادنى للتعاون الاقتصادي بين البلدين .
اما الاتفاق الثاني الذي عقد في العام 1953 والذي رعى شؤونا اقتصادية ومالية بين الطرفين لم يكتب له النجاح ايضا لاعتبارات سورية ولبنانية داخلية وأبرزها سلسلة الانقلابات في سوريا ، وظلت الامور معلقة حتى العام 1964 حيث تمّ الانفصال المالي بين البلدين بعد قيام لبنان بانشاء مصرف لبنان ليحل محل بنك سوريا ولبنان الذي وحد العملة بين البلدين حتى العام 1964 .
اما الاتفاق الثالث بين البلدين الذي انشىء بموجبه الهيئة العامة اللبنانية - السورية في العام 1970 فقد تضمن مسائل النقل والترانزيت والتبادل التجاري وموضوع العمال السوريين في لبنان والقضايا السياحية واملاك اللبنانيين المؤممة في سوريا والبطاقة الموحدة وترسيم الحدود والحسابات المالية للبلدين بعد القطيعة الاقتصادية .
لقد ظلت اجتماعات الهيئة الدائمة حتى العام 1978 حيث عقد (510) اجتماعا ، وقد انشأ لبنان مكتبا دائما له في دمشق بتاريخ 16/ 3/ 1972 طبقا للمادة (5) منه، بينما احجمت دمشق انذاك عن انشاء مكتبا لها في بيروت .
ان تجربة الاتفاقات اللبنانية - السورية لم تكن موفقة الى حد الوصول الى الغايات التي من اجلها انشئت ، ويعود ذلك الى عدة اعتبارات لبنانية وسورية على السواء ، وأيا يكن الامر فان حسن تطبيق الاتفاقات يعود الى النوايا ومدى الثقة المتبادلة بين البلدبن ، اضافة الى عوامل اقليمية ودولية كانت دائما من بين الاسباب الرئيسة لتوتير العلاقات بين الطرفين
. رابعا : معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق
قبل البدء في تحليل مضمون المعاهدة والقاء الضوء على ابرز بنودها نشير الى بعض الملاحظات الهامة المحيطة بها وأبرزها :

1-ان مقاربة بنود المعاهدة مع غيرها من الاتفاقيات المعقودة بين البلدين او بين لبنان وغيره من الدول ، تظهر بوضوح مدى الحاجة المتبادلة لكلا الطرفين الى رقي العلاقة وتحديد اطرها بشكل لا يؤدي الى الالتباس والغموض ، وبالتالي تجنب امكانية اي دخول لعوامل سلبية وعناصر خارجية تؤثر في مجرى العلاقة بين البلدين .
2- لقد اتت المعاهدة نتيجة للرعاية السورية المباشرة للازمة اللبنانية منذ العام 1976، كما اتت تتويجا لسلسة من المحاولات لرسم اطر العلاقة المتبادلة بدءا من الوثيقة الدستورية في العام 1976 ومرورا بالاتفاق الثلاثي في العام 1985 وصولا الى المعاهدة ، وما تخللها من لقاءات قمة بين الطرفين في مختلف العهود والتي بلغت اوجها في عهد الرئيس امين الجميل حيث وصلت لقاءات القمة الى ثلاث عشرة عقدت جميعها مع الرئيس الر احل حافظ الاسد في دمشق .
3- تلاشي المحاور العربية المناوئة لسوريا بعد حرب الخليج الثانية والذي اثر بدوره على تجديد الاعتراف العربي والدولي لدورسوريا الاقليمي وكذلك ما يتعلق برعاية الملف اللبناني .
4- لقد اثر سقوط النظام الدولي وظهور ملامح جديدة له في النظرة الى التجمعات الاقليمية وضرورة تفعيلها على قاعدة الاهمية التي يمكن ان تؤمنها لجهة العلاقات بين الدول المتجانسة وما يمكن ان تقدمه كذلك في تطوير اوضاعها من جهة ، وحماية لها من آثار النظام الدولي الجديد عليها.
5- ان فشل الجامعة العربية في حل معظم المشاكل العالقة بين الدول العربية ،فسح المجال واسعا امام ظهور ميل واضح باتجاه التجمعات الاقليمية كبديل تعاوني عن الجامعة العربية ، الامر الذي دفع سوريا الى التفكير بتجمع يضم لبنان، خصوصا وأن الاخطار المحدقة بالبلدين هي واحدة بالنتيجة .

وبالعودةة الى نصوص المعاهدة والتدقيق فيها يظهر عدة امور ابرزها:

- ان بنود المعاهدة عالجت قضايا حساسة للبلدين غير انها ظلت في اطار العموميات ، ويعود ذلك الى جملة اعتبارات لبنانية باعتبار ان الغوص في التفاصيل يمكن ان يثير الحساسيات ويربك المواقف ، علما ان تفاصيلها تركت انذاك وفقا للبند الاول من الاحكام الختامية الى الاتفاقات اللاحقة وقد تمّ تجاوز بعضها.
- ان مكان اجتماعات المجلس الاعلى وهيئة التنسيق تركت دون تحديد المكان " في المكان الذي يتم الاتفاق عليه "بخلاف لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والامن والاقتصادية والاجتماعية التي حددت امكنة اجتماعاتها بالتناوب بين البلدين .
- ربطت المعاهدة في مادتها الرابعة بين اقرار الاصلاح السياسي بصورة دستورية ، واعادة انتشار الجيش السوري في بعض المناطق اللبنانية ، وربط الموضوع الاخير باتفاق بين الحكومتين لتحديد الحجم والمدة لبقاء هذه القوات .

أ - مضمون المعاهدة

على الرغم من ان المعاهدة قد عالجت مختلف جوانب العلاقة الممكنة بين البلدين ، الا ان ابرزها يظهر في قضايا السياسة الخارجية والدفاع والامن ، كون هذه الاخيرة تعتبر الاهم بنظر سوريا من أي امر آخر على اعتبار ان التدقيق في خلفيات اشكالية العلاقة بين البلدين تظهر وقوف تلك القضايا وراءها .

- السياسة الخارجية
ان لبنان الذي اتخذ شعارا اساسيا في سياسته الخارجية في بيانه الوزاري العام 1943 بأنه، " لن يكون ممرا او مستقر" لاي دولة اجنبية باتجاه البلدان العربية بشكل عام وسوريا بشكل خاص ، لم يف بالتزاماته هذه على الاقل في مرحلتين بارزتين من تاريخه السياسي المعاصر وهما : الاول نموذج ادخال المارينز الى بيروت في العام 1985 ، والثانية ادخال القوة المتعددة الجنسيات في العام 1983 بعد الاجتياح الاسرائيلي الثاني للبنان وما تلاه من اتفاق 17 أيار وما يشكله من خطر على المحيط العربي والسوري بشكل خاص ؛ وفي كلا الحالتين تعرض لبنان لاخطر انقسام داخلي ووتر علاقاته مع الدول العربية وأوصلها الى حد القطيعة مع سوريا .
اضافة الى هاتين السابقتين ، فان سياسة الابهام التي اتبعها لبنان فيما يختص بالقضابا العربية المركزية كانت احد المظاهر التي باعدت بين البلدين في بعض الفترات ؛ كنموذج الموقف من المقاومة الفلسطينية وعملياتها من لبنان في بعض المراحل السابقة ، ومدى مشاركته في قضايا الصراع العربي – الاسرائيلي كموقفه من العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 ، وقضايا تسليح الجيش اللبناني على اسس متطورة كالذي حدث في العام 1964 ابان تحويل مياه روافد نهر الاردن .
ولتلك المظاهر والقضايا اشارت المعاهدة في الفقرة الثانية من المادة الثالثة على وجوب " تنسيق مواقفهما تجاه مختلف القضايا الاقليمية والدولية " فما هي القضايا التي تهم لبنان وسوريا التي يجب التنسيق فيها ؟.
1 - ان الوجود العسكري الفلسطيني الكثيف(سابقا) في لبنان مقارنة مع البلدان العربية ، ظل مصدر خوف وقلق دائمين للجانب اللبناني ، ومصدر ارباك للسياسة السورية تجاه لبنان والفلسطينيين في لبنان ، وخصوصا بعد العام 1985 ؛ فما يهم لبنان ، هو ضبط الوجود العسكري بهدف احتواء أي ذريعة اسرائيلية للهجوم عليه ؛ فيما سوريا وان ابدت تفهما بارزا للموقف اللبناني فان جملة اعتبارات تتحكم في موقفها تجاه هذا الامر وأبرزها ، موقف منظمة التحرير الفلسطينية انذاك من مسارات التسوية في المنطقة ومدى تتطابقها مع الموقف السوري ، اضافة الى الاستجابة الدولية وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية للدور السوري في رعاية الملف اللبناني وتداعياته الاقليمية .

2- ان لبنان بفئاته وطوائفه ظل عرضة للتجاذبات الاقليمية والدولية ، الامر الذي احرج سوريا في فترات مختلفة ودفعها وباشكال متعددة للتدخل العسكري في بعض مراحل الازمة اللبنانية ، ولتلافي مثل هذه الخيارات الصعبة ايا تكن وجهتها اوخلفياتها ، فان التنسيق بين البلدين يمكن ان يخفف التجاذبات الاقليمية والدولية بينهما ، ويبعد فتيل أي ازمة يمكن ان تستغل جيدا بين الطرفين ( وهذه المحاولات لا تعد ولا تحصى).
3- ان التطورات الدولية والاقليمية كانهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع روسيا عن لعب دور بارز في الشرق الاوسط وذهابها بعيدا باتجاه اوروبا والغرب واسرائيل بشكل خاص ، وحرب الخليج وتبدل موازين القوى العسكرية والسياسية في المنطقة وميلها لمصلحة اسرائيل ، ان جميع هذه العوامل قد اثرت وستؤثر على مسار الصراع العربي - الاسرائيلي ، وكون ان سوريا انفردت على الصعيد العربي الرسمي في مواجهة اسرائيل والى جانبها لبنان الرسمي ومقاومته ، فان الضرورة تقتضي تحكم سوريا في غالبية عناصر الصراع العربي – الاسرائيلي، واحتواء أي مظاهر سلبية يمكن ان تؤثر على مسار هذا الملف .
ان التنسيق الوارد في نص المعاهدة يظهر الحاجة لتفادي تجربة الاتفاق اللبناني – الاسرائيلي الذي مشى فيه لبنان بعيدا عن سوريا والعرب ، والذي استهدفغت نصوصه بشكل خاص سياسة لبنان الخارجية والدفاعية والامنية ، عدا عن الآثار التي تترتب على تنفيذه انذاك.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول ان ، ان جوهر التنسيق في نص المعاهدة بخصوص السياسة الخارجية ، هو ايجاد اطر التطابق بين الموقفين السوري واللبناني تجاه قضايا الحرب والسلم في المنطقة ، وعمليا هذا ما تمّ المضي به وقد تجلى ذلك في موقف البلدين من مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط وما تفرع عنه من مفاوضات ثنائية ومتعددة ؛ وفي الواقع ايضا لقد ظل تلازم المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات التسوية منهجا موحدا بين البلدين تجاه اسرائيل ، وهذا ما عزز عمليا دور المقاومة اللبنانية ومكّنها في 25 ايار 2000 من اجبار اسرائيل على الانسحاب من الاراضي اللبنانية دون قيد او شرط (باستثناء مزارع شبعا) وهي سابقة في الصراع العربي – الاسرائيلي.

- السياسة الدفاعية والامنية
ان الاحتضالن الجغرافي الذي تتمتع به سوريا تجاه لبنان والذي يشكل اكثر من نصف الحدود اللبنانية - السورية ، اضافة الى العامل الطبوغرافي التي تتميزبها سلسلة جبال لبنان الشرقية والغربية لا سيما علوها واهميتها الاستراتيجية في المنطقة ؛ هذان الامران دفعا سوريا الى تلافي أي اختراق عسكري - امني للبنان باعتباره من الوجهخة العسكرية سيكون اختراقا عسكريا وأمنيا لسوريا او على الاقل التهديد باختراقة.
ان المادة الثالثة التي نصت على : " ان الترابط بين امن البلدين يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لامن سوريا ، وسوريا لامن لبنان.."والمادة الرابعة التي بموجبها : " تقررالحكومتان اللبنانية والسورية اعادة تركيز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل منطقة البقاع الغربي في ضهر البيدر حتى خط حمانا - المديرج – عين دارا ، واذا دعت الضرورة نقاط اخرى …" اضافة الى البند الخامس من المادة الخامسة " لجنة شؤون الدفاع والامن" ومهامها جميعا تشكل المبررات وشكل التنسيق الدفاعي والامني بين البلدين .
فالمناطق المحددة في المادة الرابعة والتي على اساسها سيعيد الجيش السوري انتشاره فيها تعتبر مناطق حساسة جدا لامن سوريا ومداه الحيوي، ان كان بمواجهة اسرائيل عبر الجولان وما يشكل البقاع الغربي من امتداد حيوي له ، ام عبر الاشراف على مفاصل الطرق الاستراتيجية الجبيلة في سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية .
كما ان الفقرة (ب) من اختصاص لجنة الشؤون الدفاعية والامنية "..او اية اضطرابات التي تخل في الامن الداخلي للبلدين .." تظهر الحاجة اللبنانية والسورية للتنسيق في هذا المجال ، خصوصا وان الواقع الداخلي اللبناني يفرض هذا التنسيق بعد تعدد مظاهر نمو النزعات العدائية لسوريا بين بعض الفئات اللبنانية ، ومحاولتها الاصطدام العسكري معها في بعض مراحل الازمة اللبنانية.
رابعا: العودة الى نقطة الصفر
واذا كانت هذه الاشكاليات في العلاقة بين البلدين قد حاول الطرفان ترميمها وتجاوزهافي بعض الحالات ،فان العديد من المتغيرات الاقليمية قد فرضت نفسها مجددا على البلدين،واعادت خلفيات العلاقة الى نقطة البداية،بل تعدت الى مستويات خطرة علىلبنان وسوريا في آن معا.
ان احتلال الولايات المتحدة الامريكية لأفغانستان والعراق،والذي ترافق مع مشروع الشرق الاوسط الكبير،قد اعاد خلط الاوراق مجددا في المنطقة ولا سيما دور سوريا الاقليمي ومنها رعاية الملف اللبناني،قد دفع بقسم لا يستهان به من اللبنانيين اى المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان وفقا لأتفاق الطائف، بل تعدى بعضها الى مستويات اعلى من التصادم مع سوريا،ما شكل استفزازا للفئة اللبنانية الأخرى، الامر الذي اوجد تنافسا دوليا جديدا في لبنان وعليه بين الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا.
ان تقاطع المصالح الفرنسية الامريكية حول لبنان انتج القرار 1559، وحدا بالمعارضة اللبنانية التسلح به وصولا الى رفع شعارات الحرية والاستقلال والسيادة بوجه دمشق،ما ينذر بضرب الوحدة الوطنية الداخلية لما يشكل تطبيق القرار الى فرز سياسي ومذهبي واضح بين اللبنانيين.
كما شكل اغتيال الرئيس رفيق الحريري مناسبة هامة للمعارضة لترتيب اوضاعها الجديدة بمواجهة سوريا والانتقال الى مستويات التحدي ليس للحكم اللبناني كما درجت العادة بل التصويب تلميحا وتصريحا على سوريا،باعتبار ان فرصة المساندة الدولية ربما لم تتكرر ابدا،وبذلك باتت الامور اصعب من ان ترمم بوسائل عادية.ومن هنا يمكن ادراج بعض الملاحظات اهمها:
- ان اتفاق الطائف ومن ثم سلسلة الاتفاقات بين البلدين لم تستطع استيعاب خلفيات اشكالية العلاقة بين البلدين،ذلك يعود للعديد من الاعتبارات الداخلية اللبنانية بشكل اساسي ،وايضا لطابع المتغيرات الاقليمية الكبيرة التي حصلت في السنتين الماضيتين.
- ان تقاطع المصالح الدولية والاقليمية مع مطالب المعارضة قد اعاد القوة لهذه الاخيرة ومكنها من الاستثمار الجيد للقرار 1559 الذي يعني فيما يعنيه تحييد لبنان عن الصراع العربي الاسرائيلي،عبر فصل المسارين والمصيرين اللبناني والسوري.
- ان مطلب تطبيق اتفاق الطائف لجهة الوجود العسكري السوري في لبنان قد تخطته الاحداث المتسارعة وبات يتطلب سلسلة اجراءات استثنائية بحيث ان اعادة الانتشار او غيرها من الاجراءات لم تعد كافية لتلبي طموحات المعارضة بكافة تلاوينها السياسية.
لقد بات مصير لبنان يقف على حد السيف،اذ ان أي مغامرة غير محسوبة يمكن ان تضعه في المجهول وتعيده الى ظلال سوداء طالما دفع ثمنها غاليا.لذا ينبغي العمل سريعا على ايجاد بيئة للحلول المناسبة القابلة للحياة،ان كان على الصعيد الداخلي او العربي.فداخليا ثمة حاجة لحكومة وحدة وطنية تعيد ترتيب الشأن الداخلي واعادة ترتيب العلاقات اللبنانية السورية بما يحفظ المصالح المشتركة للبلدين على قاعدة ان التاريخ واحداثه وان كانت دائمة التغير،فان الجغرافيا ستبقى ثابتة بين البلدين.وخارجيا ثمة حاجة ايضا لتطوير وتسريع المبادرات العربية التي بدأتها مصر لحل المشكلة المأزق التي لن تسلم منها المنطقة برمتها.فهل ستكون القمة العربية القادمة بابا لحل مشكلة العلاقات اللبنانية السورية؟ ام ستكون آخر القمم العربية بعد ان يثقب الدف ويتفرق عشاق العروبة وتعاونها؟.