13‏/02‏/2008

التحديات السياسية للبابا القادم

التحديات السياسية للبابا القادم
د.خليل حسين
أستاذ المنظمات والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
اعتبر البابا يوحنا بولس الثاني بمثابة العلامة الفارقة في تاريخ الباباوات الذين تعاقبوا على الكرسي الرسولي،وفي الواقع يعود هذا التمايز الى العديد من الاسباب الخاصة التي انفرد بها لا سيما في التاريخ المعاصر لحاضرة الفانيكان،ومن بينها مواقفه السياسية من بعض القضايا الدولية،او اذا جاز التعبير تمايزه بنهج ساهم الى حد بعيد في رسم اطار لسياسة الفاتيكان الخارجية .
وفي الواقع ايضا،يطرح السؤال مجددا ماذا بعد الحبر الاعظم؟وما هي ملامح المرحلة المقبلة لحاضرة الفاتيكان في ظل الواقع المستجد في النظام الدولي،ومدى موقع الفاتيكان كدور في التواصل كجسر في حوار الحضارات والاديان بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس نظريات نهاية التاريخ وتصادم الحضارات وغيرها من الرؤى التي أرخت ظلالا كثيفة على دور مرجعيات الاديان السماوية.
أن عملية اختيار بابا للكنيسة الكاثوليكية تتداخل فيها صراعات وتوازنات جيو سياسية اذ لم يفقد ذلك المعيار قيمته المطلقة، وإن كان لم يعد للانتماء الجيو-سياسي نفس الوزن كما في القرون الوسطى، كعامل حاسم في اختيار الزعيم الروحي لحوالي مليار و18 مليون كاثوليكي حول العالم، فداخل الإدارة البابوية نفسها لا توجد وحدة في وجهات النظر إلى درجة تفرض سياسة جماعية وانتخابية في المجمع الانتخابي لكن تبقى التطلعات الأمريكية اللاتينية هذه المرة باتحادها مع الأفارقة والآسيويين تشكل عاملا مؤثرا على فرصة البابا الأوربي القادم.
وبصرف النظر عن المرشحين لخلافة البابا،فان ما يهمنا هنا القاء الضوء على التساؤلات والملفات الساخنة التي ستواجه البابا القادم ومن بينها مدى تأثر حاضرة الفاتيكان بالنزعة المسيحية العنصرية التي تجلت في الولايات المتحدة الأمريكية في العقد الأخير، فيما عرف باسم المسيحيين الصهاينة؟ وبخاصة إذا ترأس الفاتيكان أحد الكرادلة الذين يميلون الى مثل تلك التوجهات إزاء العالمين العربي والإسلامي.،وكذلك قضية الاعتذار للعالمين العربي والاسلامي عن فترة الحروب الصليبية بعدما تم الاعتذار لليهود عن سوء معاملتهم عبر التاريخ.
وما هو مصير الحوار بين أتباع الديانات السماوية المعلق بعد التقدم النسبي الذي تم إدراكه في السنوات الماضية وتجلى في الكثير من اللقاءات المشتركة والاشارات المتبادلة. والتي كان منها إشادة البابا يوحنا بولس الثاني بدور الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حوار الأديان والحضارات وشكره لها في حل مشاكل الأقليات الدينية. والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا لو انتخب احد الكرادلة المتشددين لجهة الحوار مع الآخر أو من بين الذين يرغبون بإقامة جدار أمام الإسلام والمسلمين في أوروبا؟ وبالتالي هل سنشهد مدا يمينيا مسيحيا جديدا كالذي تعاني منه الولايات المتحدة؟ الا ان قوانين وقرارات ودساتير المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي يعد بمثابة منهج الكنيسة الكاثوليكية منذ الستينيات والذي يعتمد الحوار مع الآخر يجعل من هذه الفرضية غير مطلقة رغم مشروعينه كما ان هناك العديد من التساؤلات التي ستطرح ومن بينها ملفات الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا بيوس الثاني عشر، المتعلقة بأحداث الحرب العالمية الثانية، ودور الكنيسة في حماية اليهود أو الإحجام عن مساعدتهم إبان "المحارق" في ألمانيا النازية، وهل ان اثارة تلك الملفات في عهد البابا الجديد ستليها محاولات تكفيرية اخرى تعطي اليهود مزايا في علاقتهم المتحسنة أصلا في الفترة الأخيرة مع الكرسي الرسولي؟ وما تأثير هذا التوجه على مساندة الفاتيكان للقضايا العربية ومناصرته القضية الفلسطينية،وبخاصة أن البابا يوحنا بولس الثاني كان له مواقف متقدمة في هذا المجال، باشارته "الحاجة إلى جسور لا جدران" في معرض انتقاده لإسرائيل من بناء الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية.
والسؤال الآخر يتمثل بموقف البابا الجديد من المدينة المقدسة "القدس" خاصة أن الفاتيكان عقد في شباط/ فبراير 2000 اتفاقا مع السلطة الفلسطينية اعترف بحقها كسلطة تنفيذية في المدينة ، وبحقها في الحفاظ على التراث الروحي في المدينة. فهل يمكن أن يتغير هذا الوضع حال وصول أحد الكرادلة غير المتفهمين للقضية الفلسطينية وأهمية القدس عند العرب والمسلمين؟.
ان خليفة البابا سيجد نفسه امام واقع من الصعب تجاوزه لاسباب كثيرة بينها عدد السنين التي امضاها البابا يوحنا بولس الثاني وهي ربع قرن قام في خلالها بأكثر من مئة رحلة خارجية تركت بصمات واضحة في علاقة الفاتيكان بالخارج من الناحيتين الكنسية والسياسية،واصدر اثنا عشر رسالة باباوية والقى اكثر من اثني عشر الف خطاب وانجز مئات عمليات التقديس والتطويب.كل ذلك جرى في مرحلة شهدت العديد من التحولات السياسية والاقتصادية في النظام العالمي،من انهيار الاتحاد السوفياتي والتوجه الاقتصادي الجديد المتمثل في العولمة والنيو ليبرالية وصولا الى التفرد الامريكي في قيادة العالم.ناهيك عن احداث 11 ايلول 2001 وما اعقبها من حروب استباقية امريكية رفضها البابا يوحنا بولس الثاني والذي ظهر في وثيقة العقيدة الاجتماعية الصادرة في بداية العام الحالي فكيف للخلف أن يملأ هذا الفراغ الذي سيتركه السلف ؟.
كما ان قضية الاتحاد الأوربي ودور الدين المسيحي على وجه الخصوص من القضايا المطلوب التعامل والتفاعل معها، بخاصة في ظل ضغوط الاتجاه الراديكالي داخل مجمع الكرادلة لتضمين الدستور الأوربي ما يشير إلى الجذور المسيحية لأوربا، وهو ما رفض سابقا من معظم الحكومات الأوربية.فكيف سيتم التعامل مع هذه القضية وهل سيتمكن البابا القادم من تخطي كل تلك التحديات؟
اننا اليوم بأمس الحاجة الى بابا مقدس بالطيبة والحكمة ومعمم بالتدبير والمعرفة، بحاجة الى حبر اعظم يقدس التفاهم والحوار بين الرسالات السماوية،يمد ذراعيه ويفتح قلبه للآخر،بحاجة الى بابا يوجه كلاما قويا للقوة العظمى ليكون للعدالة والمحبة مكانا في العالم الذي بشر به سيدنا المسيح عليه السلام.