10‏/02‏/2008

الجرائم ضد الانسانية والمقابر الجماعية في القانون الدولي

الجرائم ضد الانسانية والمقابر الجماعية
في القانون الدولي

د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
تعتبر المقابر الجماعية نتاج ابادة جماعية او لجرائم حرب داخلية أي بين اطراف داخل البلد الواحد او نتاج حرب تشارك بها اكثر من دولة او اكثر من طرف، وفي كلا الحالين فهي تعبير صارخ عن جرائم ترتكب بحق الانسانية،وقد شهدت العديد من الدول هذه الجرائم قديما وحديثا،وقد شكلت المقابر الجماعية نوعا من انواع التغطية وطمس للجرائم المرتكبة بحق كثيرين تحت مسميات ومبررات وحجج مختلفة وامتدّت عبر العصور وشملت انظمة متنوعة عقائديا وسياسيا وغيرها من التصنيفات،الا ان المشنرك بينها جميعا ان الضحايا غالبا ما كانوا من المدنيين او اسرى حرب او معتقلين سياسيين ومهما وُصِفَت هذه الجرائم فتظل تأخذ جانب الجرائم ضد الانسانية بإعتبارها تطال اشخاصا وأفرادا وحتى جماعات من المفترض انها تتمتع بحماية القانون الدولي الانساني ، فما هو التكييف القانوني لهذه الجرائم وكيف تمّ التعاطي معها ؟ وعلى من تقع المسؤولية وهل هناك طرف يتحمل نتائج هذه الافعال والتعويضات؟
تُعرّف الجريمة الدولية بأنها واقعة اجرامية تخالف قواعد القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدوليين سواء ارتكبت بفعل الجاني الايجابي او امتناعه عن القيام بفعل ـ الفعل السلبي ـ مع توافر القصد الجنائي .وعليه، فإن لعناصرالتي ينبغي توافرها في الفعل كي يستوجب المساءلة الجنائية على الصعيد الدولي هي: الركن الشرعي ويقصد به النص القانوني الذي يجرّم الواقعة ويستمد من الاعراف والمواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية الموقعة بين الدول. والركن المادي اي ان يكون الفعل المرتكب او الامتناع عن فعل مخالفا للقانون الدولي، اي يشكل انتهاكا لأحكام هذا القانون سواء أكانت مستمدة من العرف الدولي ام المعاهدات والمواثيق. وان يكون الفعل ذا عنصر دولي، اي ان يشكل اعتداء على القيم والمصالح الاساسية للجنس البشري حتى لو ارتكب بدافع شخصي. ويعتبر هذا الشرط جوهريا، ذلك ان الفعل المستوجب للمساءلة الجنائية الدولية يجب ان يتضمن انتهاكا للقيم الاساسية في المجتمع الدولي سواء كان المجني عليه فردا ام دولة ام المجتمع البشري بأسره.والركن المعنوي اي اتجاه النية لارتكاب الجريمة الدولية على ما عرفها القانون وذلك بتوافر العلم به والارادة لفعله.
ويرتكب الفرد الجرائم الدولية اما لحسابه الخاص بوصفه شخصا عاديا، وإما لحساب دولته او بإسمها. ويستهدف الفرد الذي يرتكب الجرائم الدولية لحسابه الخاص او بوصفه شخصا عاديا تحقيق منافع او اهداف شخصية بحتة، وهذه الجرائم منها ما قرره العرف ومنها ما عرف بمواثيق دولية ومثال هذه الحالة من الجرائم القرصنة والمتاجرة بالمخدرات وتزوير العملة والارهاب.
اما الجرائم التي يرتكبها الفرد لحساب دولته فهي اما ان تقع بتشجيع دولته ورضائها او بناء على طلبها وهذه الجرائم هي الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الانسانية، وجرائم الحرب. وهذه المجموعة من الجرائم يظهر فيها الطابع الدولي بصورة واضحة فهي جرائم دولية بطبيعتها ذلك ان الافعال المكونة لتلك الجرائم لا يمكن ان ترتكب الا بناء على خطة مرسومة من دولة ضد رعاياها او ضد دولة اخرى او رعايا تلك الدولة، ويرتكب اما عن طريق سلطاتها او بطلب منها او بتشجيعها ورضائها وهذه الافعال تمسُّ في الغالب المصالح الجوهرية للدولة الضحية او مواطنيها بشكل يهدد السلم والامن الدوليين.
وتعد الجرائم ضد الانسانية من اكثر الجرائم انتشارا الآن، اذ انها ترتكب خلال النزاعات المسلحة الدولية والداخلية على حد سواء كما انها ترتكب في اوقات السلم. والضحايا في هذه الجرائم اما ان يكونوا رعايا الدولة التي ترتكب هذه الافعال او رعايا دولة اخرى.
اولا : المفاهيم والأسس
إن مفهوم الجرائم ضد الانسانية مرَّ بتطورات جديرة بالمتابعة والملاحظة. فقد ظهر اول مفهوم لها في اتفاقيقة لاهاي 1907 من خلال شرط " مارتنز" الذي وضع الأساس لتجريم الأفعال التي تشكل الآن جرائم ضد الإنسانية، خصوصاً ان هذا الشرط قد توجَّه لحماية السكان المدنيين الذين ليسوا طرفاً أساسياً في الحرب،والذي ينص على أنه "حتى صدور منظومة مدوّنة قانونية كاملة لقوانين الحرب، وفي الحالات التي لا تتضمن القواعد الموضوعية، فإن الدول المتعاقدة ترى الفرصة مناسبة للإعلان بأن السكان المتحاربين يظلون تحت سلطان وحماية مبادئ قوانين الأمم المؤسسة على ما هو مستقر بين الشعوب المتمدِّنة وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام". وباستعراض النص يلاحظ بأنه هدف الى حماية السكان المدنيين الذين يشكلون شرطا أساسياً من شروط الجرائم ضد الانسانية مقارنة مع بقية النصوص الأخرى التي تعمل على تنظيم الأوضاع بين المتحاربين، إذ وضع النص معياراً يفترض عدم خرقه وإلا ارتكبت جريمة ضد الانسانية، وهذا المعيار هو القوانين الانسانية ومقتضيات الضمير العام للإنسانية والمبادئ المستقرة بين الأمم المتمدِّنة. ولم تُعرِّف اتفاقية لاهاي القوانين الانسانية في متنها أو في ملاحقها، كما لم تشر الى مخالفات أو انتهاكات معينة على انها جرائم ضد الانسانية، ولم تنص على أي عقوبات جرمية لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم. ورغم ذلك فإن شرط "مارتنز" الوارد في الاتفاقية يُعتبر سابقة استرشدت بها الاتفاقيات اللاحقة عند النص على حماية السكان المدنيين.
ويعود ظهور مصطلح الجرائم ضد الانسانية الى التصريح الذي صدر عن حكومات كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى في 28 /6/ 1915 والذي أُعلن فيه ان ارتكاب تركيا للمذابح أدى الى موت مليون أرمني، وطالبت هذه الدول آنذاك بمحاكمة جميع الأتراك المسؤولين عن ارتكابها. وفي هذا الاطار تقدَّمت روسيا بمشروع لتسمية هذه الجرائم بـ "الجرائم ضد المسيحية والحضارة" لتضفي عليها طابعاً دينياً خالصاً، ولكن عارضت كل من فرنسا وبريطانيا اللتان كانتا في ذلك الوقت امبراطوريتان عظيمتان هذه التسمية، لأن كل من هاتين الامبراطوريتين كانتا تضمان عدداً كبيراً من المسلمين بين سكانها، الأمر الذي أدى الى اطلاق مصطلح الجرائم ضد الانسانية على هذه المذابح.وكذلك لم تتطرق معاهدة فرساي الى الجرائم ضد الانسانية بسبب معارضة بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة إدراج انتهاك قوانين الإنسانية، وقوانين الحرب ضمن هذه المعاهدة، ولم توافق الولايات المتحدة على استخدام مصطلح الجرائم ضد الانسانية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تطور نقاش هذه المسألة في الفترة الأخيرة فخلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر روما لم يكن هناك أي خلاف بين الوفود على تضمين الجرائم ضد الانسانية ضمن الجرائم المعاقب عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما أثار خلافاً بين الوفود المشاركة هو الوصول الى تعريف محدد لهذه الجريمة. وقد تباينت الآراء في المؤتمر حول تعريف الجرائم ضد الانسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين :الأول أصرَّ على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلاً من التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة، باعتبار ان هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة، كما ان اختصاصها هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الاخرى. والثاني طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفاً مفصلاً لهذه الجريمة، وذلك انعكاساً للتطورات الكثيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخراً. وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدوّنة الجرائم المخِلة بسلم الانسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الانسانية بموجب المعاهدات. الا ان الامور آلت الى الاتفاق على تعريف للجرائم ضد الانسانية ينص على أن يشكل "أي فعل من الافعال جريمة ضد الانسانية عندما يتم ارتكابها في اطار هجومي منهجي أو واسع النطاق والذي يتم توجيهه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين على علم بالهجوم، القتل العمد، الابادة، الاستعباد النفي أو الابعاد والنقل القسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الدعارة الاجبارية أو الحمل الاجباري، التعقيم الاجباري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي من نفس الخطورة، الاضطهاد السياسي أو العنصري أو الوطني أو القومي أو الثقافي لأي فئة أو جماعة محددة كما هو منصوص عليه في الفقرة رقم (3) وأي قواعد اخرى لا يجيزها القانون الدولي ارتباطاً بأي عمل مشار اليه في هذه الفقرة أو أي جريمة يتم ارتكابها وتدخل في اختصاص المحكمة الاجباري أو أي أعمال لا إنسانية اخرى من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب آلاماً أو معاناة شديدة أو اصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل".
لقد احتوّت هذه المادة على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تتضمن تعداداً للجرائم ضد الانسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة، وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في اطارها الجرائم ضد الانسانية، أما الفقرتان الثانية والثالثة فقد تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناء على طلب بعض الوفود وأشارت بعض الوفود الى المعايير العامة التي تُميّز الجرائم ضد الانسانية عن الجرائم العادية وذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.
ان اهم التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الانسانية في مؤتمر روما في وضع هذا التعريف معيارين اذا تحققا فان اي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وهو ان يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين، وان تكون هذه الاعتداءات جزءاً من اعتداءات واسعة النطاق او منهجية.وقد توسّع هذا النظام كثيراً في قائمة الجرائم ضد الانسانية، كما ترك المجال مفتوحاً لاضافة اي جرائم اخرى، وادى هذا التوسّع الى اثارة تحفظات بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية او القانون الوطني لبعض الدول.
لقد عرف النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الانسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة، فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الابادة، الاستعباد، النقل الاجباري للسكان، التعذيب، الحمل الاجباري والاضطهاد.
ثانيا: مسئوليات فردية
تتشابه الجرائم ضد الإنسانية مع الجرائم التي تخضع للاختصاص الداخلي لمحاكم الدول من حيث الاركان العامة للجريمة، فالقتل جريمة معاقب عليها في القوانين الداخلية، ومعاقب عليها كجريمة ضد الانسانية اذا توفر فيها متطلبات معينة، ومعاقب عليها ايضا كجريمة حرب اذا كانت مرتكبة في زمن الحرب. وفي جميع هذه الأحوال لابد ان تتوفر الاركان القانونية للجريمة: الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، كما ان عوامل تحديد المسئولية لها قد تتشابه في كثير من الاحيان.
ان شروط الجرائم ضد الإنسانية هي عبارة عن معايير عامة تميزها عما يشابهها من الجرائم سواء في القوانين الداخلية ام في القانون الدولي، وتكمن أهمية هذه المعايير في منع التداخل بين اختصاص كل من القانون الدولي والقانون الداخلي من جهة، اذ انها تُدخل الجرائم ضد الانسانية في نطاق الاختصاص القضائي الدولي، وتزيل التداخل والغموض بين الجرائم ضد الانسانية وبقية الجرائم الدولية التي تتشابه معها من جهة اخرى مثل جرائم الحرب وجريمة الابادة الجماعية، وفي غياب تحديد هذه المعايير فإن خلطاً وغموضاً سوف يكتنف هذه الجرائم. اما المعايير العامة للجرائم ضد الانسانية فهي أربعة :
ـ ارتباط الجرائم ضد الانسانية بالنزاع المسلح.
ـ ارتباط الجرائم ضد الانسانية بالهجوم واسع النطاق والمنهجي.
ـ توجيه هذه الجرائم ضد السكان المدنيين.
ـ ارتكاب هذه الجرائم على اساس تمييزي.
وأهم ما يميز هذه المعايير ان احدها قد يكون ذو اهمية كبيرة في مرحلة معينة أو نزاع معين، وقد يصبح اقل اهمية في نزاع آخر، ويبدو هذا واضحاً من خلال مقارنة شرط النظام الاساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة ارتكاب الجرائم ضد الانسانية في اطار النزاع المسلح، بينما ركَّز النظام الاساسي لمحكمة رواندا على الاسس التمييزية كمعيار لحدوث هذه الجرائم، وهذا التباين في الاسس ـ التي اعتمدت عليها المحكمتان ـ يعود الى طبيعة كل من النزاعين اللذين نشأت في ظلهما هاتان المحكمتان فالنزاع في رواندا هو نزاع مبني على نزاع طائفي بين اقلية الهوتو واغلبية التوتسي، بينما اراد النظام الاساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة الابقاء على الصلات مع القانون الدولي التقليدي ممثلاً بميثاق لندن الذي اشترط ارتكاب الجرائم في اطار النزاع المسلح، ولو ان النظام الاساسي لمحكمة رواندا قد اشترط نفس الشروط لأسفر ذلك عن افلات مجرمين كُثر من العقاب.
لقد انتقل الجدل الى مرحلة جديدة حيث مضت حوارات روما الى نقاش ان الجرائم ضد الانسانية تُرتكب في اطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، ولم يربط هذا النظام الجرائم ضد الانسانية بالنزاع المسلح وذلك بسبب الخلاف الشديد بين الوفود المشاركة على الابقاء على هذا الارتباط أو ازالته، وقد دار الجدال اساساً بين فريقين:الأول: اكد على ضرورة وجود نزاع مسلح لارتكاب هذه الجرائم وذهب بعض المؤيدين لهذا الفريق الى ابعد من ذلك حيث اشترط ان يكون هذا النزاع دولياً. ولتأييد وجهة النظر هذه احتج الفريق بالنص على هذا في كل من محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة كما احتج بقرار محكمة يوغسلافيا الجنائية الدولية في قضية نيكولنسن، وبأن القانون العرفي لم يتغير بسبب اعتماد صكوك حقوق الانسان.اما الثاني: والذي يتكون من اغلبية الوفود المشاركة اكد بأن القانون الدولي التقليدي لا يتطلب النزاع المسلح كشرط اساسي للجرائم ضد الانسانية، واضاف ان شرط هذا الارتباط في محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة يعتبر قيداً على اختصاص هذه المحاكم ولكن امكانية حدوث الجرائم ضد الانسانية في الحرب والسلم متساوية، وبرر هذا الفريق موقفه بعدم اشتراط ارتباط الجرائم ضد الانسانية بالنزاع المسلح في كل من المادة الاولى من اتفاقية الابادة الجماعية وقانون مجلس الرقابة واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والنظام الاساسي لمحكمة رواندا وقرار محكمة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة في قضية تادتيش ومشروع المدونة الصادر عن لجنة القانون الدولي وقيل ايضاً ان اشتراط ارتكاب الجرائم ضد الانسانية بالارتباط مع النزاع المسلح سوف يؤدي الى خلط الجرائم ضد الانسانية بجرائم الحرب.
وقد اشارت محكمة رواندا الجنائية الدولية في قضية keyisbema ان جميع من يحافظون على النظام العام ويطبقون القانون بصورة شرعية هم غير مدنيين وكل فرد من افراد القوات المسلحة التابعة لأحد اطراف النزاع هو مقاتل وكل مقاتل يقع في منطقة العدو هو اسير حرب وجميعهم لا يعتبرون من السكان المدنيين. بينما عرّفت السكان المدنيين في قضية akayesu تعريفا موسعا ليشمل الاشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية، بما في ذلك افراد القوات المسلحة الذين استسلموا او انسحبوا من القتال نتيجة المرض او الاصابة او الحجز او اي سبب آخر.
ان مصطلح السكان المدنيين - civilian population- استخدم في تعريف الجرائم ضد الانسانية للدلالة على ان هذه الجرائم ترتكب ضد المدنيين وليس ضد الانسانية بحيث لا تقتصر على ضحية واحدة فقط فما هو مدى اهمية احتواء تعريف الجرائم ضد الانسانية على هذا الاصطلاح.
لقد تمّت الاشارة الى هذا الشرط بطريقتين:الاولى: بشكل مباشر حيث نصّت النظم الاساسية لمحكمة رواندا الجنائية الدولية والنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومشروع مدوّنة الجرائم المخِلة بسلم الانسانية وامنها على ان الجرائم ضد الانسانية يجب ان ترتكب في اطار هجوم منهجي وواسع النطاق. والثانية: بشكل غير مباشر حيث نص مشروع مدوّنة الجرائم المخِلة بسلم الانسانية وامنها لعام 1954 على ان الجرائم ضد الانسانية ترتكب من قبل سلطات الدولة او من قبل فئة خاصة من الافراد تعمل لحساب هذه السلطات ونص النظام الاساسي لمحكمة طوكيو بأن القادة والمنظمين والباحثين والمشاركين في صياغة خطة معروفة يكونون مسؤولين عن الاعمال التي ترتكب من اي شخص تنفيذا لهذه الخطة.
ثالثا : المسؤوليات وفقا للمحكمة الجنائية الدولية
أشير في ديباجة نظام المحكمة إلى الروابط المشتركة الجامعة للشعوب واعتبار ثقافات الشعوب ميراثاً إنسانياً مشتركاً وأن المحكمة الجنائية الدولية هي الحامي للإنسانية من الجرائم المهددة لأمن وسلم ورفاه العالم بأطفاله ونسائه ورجاله الذين وقعوا خلال القرن الماضي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها، لذلك كان لا بد ألاّ تمر الجرائم دون عقاب وهذا يستوجب تعاوناً بين الدول وممارسة كل دولة ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية وامتناع الدول عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة على أي نحو لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، كما لا يوجد في هذا النظام الأساسي ما يمكن اعتباره إذناً لأية دولة بالتدخل في نزاع مسلح يقع في إطار الشؤون الداخلية لأية دولة، وبناء عليه عقد العزم على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة ذات علاقة بمنظمة الأمم المتحدة وذات اختصاص بالجرائم الأشد خطورة والتي تثير المجتمع الدولي بأسره.
ولعل من مزايا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية. فالشخص سواء أكان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، هو مسئول عن جريمته، ولا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية أي صفة رسمية أو نحوها كما إنها لا تكون سبباً في تخفيف العقوبة. وكما إن الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء أكانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، لا تحول دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص - رئيس دولة أو وزير أو أية صفة رسمية أخرى- كما ورد في المادة (27).
وليس ضرورياً أن يكون الرئيس أو الوزير أو عضو البرلمان أو القائد العسكري أو الموظف الحكومي مسؤولاً مسؤولية مباشرة، بل كل نشاط يشكل جناية حتى وإن وقع من قبل موظفين تابعين للرئيس أو نحوه يكون الرئيس أو الوزير أو القائد العسكري مسؤولاً أيضاً مسؤولية جنائية إذا كان مرتكب الجرم في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليين للرئيس أو نحوه، أو إذا لم يتخذ هذا المسؤول - رئيس أو وزير أو قائد عسكري. جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم أو لم يعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة كما ورد في المادة (28). كما إن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تسقط بالتقادم بتاتاً مهما كانت أحكامه كما وردت في تفس المادة.
رابعا : سوابق المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة
كانت محكمة نورمبيرج محكمة جنائية خاصة انشأتها الدول المتحالفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار القادة النازيين، وهي بهذا تكون محكمة أقامها الغالبون لمحاكمة المغلوبين. اما بعد ذلك فقد لعبت الامم المتحدة دورا رائدا في العمل على انشاء مؤسسات دولية مخصصة لتعيين المسئولية الجنائية، وأقر مجلس الامن انشاء محكمتين جنائيتين دوليتين، الأولى هي المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة في العام 1993، والثانية هي المحكمة الدولية لرواندا في 1994 من اجل معاقبة انتهاكات القانون الدولي خلال نزاع يوغسلافيا، وجرائم الابادة الجماعية في رواندا خلال التسعينيات وهي الجرائم والانتهاكات التي ايقظت الضمير الدولي، ودفعته لاقامة هاتين المحكمتين اللتين تميزتا بأنهما لم يفرضهما المنتصرون لمحاكمة المهزومين، وبأنهما مؤقتتان تشكلتا لمحاكمة اناس بذواتهم في قضايا معينة، ولم تكن دائمة، وغير مخولتين بمحاكمة اي مجرم حرب في أي بلد غير الذي اختصت به.
1 - محكمة مجرمي يوغسلافيا
تأسست المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة في ايار 1993 بقرار من مجلس الامن الدولي، وبموجب الفصل السابع من ميثاق هيئة الامم المتحدة للمحكمة الحق بموجب قانون انشائها النظر في أي انتهاكات للمادة الثانية من معاهدات جنيف 1949 الخاصة بانتهاك قوانين وتقاليد الحرب، والمادة الرابعة الخاصة بالابادة الجماعية للجنس البشري، والمادة الخامسة الخاصة بالجرائم ضد الانسانية. وللمحكمة صلاحية ادانة الاشخاص في أي تهمة جنائية اذا ما ثبت انهم خططوا أو اعدوا او نفذوا جريمة، كما للمحكمة صلاحية ادانة أي قائد أو مسئول اعلى اذا ما ارتكب احد مرؤوسيه جريمة كان يعلم أو كان يتوجب عليه ان يعلم ان المرؤوس كان على وشك ارتكاب هكذا جريمة أو كان على وشك ارتكابها وأخفق في منع وقوع الجريمة أو معاقبة منفذيها.
وعقدت المحكمة جلسات للنظر في اتهامات موجهة ضد افراد واخرى موجهة ضد مجموعات مدنيين وعسكريين من الاثنيات الرئيسية الثلاث التي شاركت في النزاعات المسلحة في البلقان. وأدانت المحكمة مواطنين عاديين اتهموا بارتكاب جرائم تتعلق بالنزاعات، وسياسيين بارزين وقادة عسكريين كبار. وتفاوتت الاحكام ما بين السجن لسبع سنوات الى خمسين سنة. ونظرت المحكمة منذ الاعلان عن تأسيسها في أكثر من خمس عشرة قضية ضد نحو ثلاثين متهما، وكان من أبرز الاحكام التي اصدرتها ذلك الحكم الذي اصدرته بحق الجنرال الصربي كرادزيتش والذي يمثل نقطة تحول هامة للغاية منذ الحرب العالمية الثانية باعتباره اول حكم يقرر العقاب على جريمة الابادة الجماعية للجنس البشري.
وفي حيثياته لانشاء المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة أكد مجلس الأمن ان الهدف من انشاء المحكمة هو حفظ السلم والأمن في أوروبا، خاصة يوغسلافيا السابقة لأن محاكمة مجرمي الحرب سيؤدي الى صفاء النفوس لأن أي جريمة يترتب عليها رد فعل الانتقام ومحاكمة من ارتكب هذه الجرائم سيقضي على جرائم الحرب وعلى الرغبة في الانتقام خصوصا واذا كان من يرتكب الجرائم يعرف انه ليس فوق القانون. ويمكن القول ان المحكمة تمثل انموذجا مصغرا للعالم، اذ جاء تشكيلها ليمثل كل العالم بجميع قاراته فهناك قاض من اميركا الشمالية وآخر من أميركا الجنوبية واثنان من الوطن العربي واخر من الصين ومن استراليا وانجلترا وفرنسا وايطاليا بالاضافة الى قاضيين واحد من باكستان والاخر من جامايكا. وهذا ما يجعل المحكمة تختلف عن محكمة نورمبيرج. انتقل تركيز العالم نحو المحكمة الدولية حين دخل الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش قاعة المحكمة وهو يطلق عبارات السخط في فبراير عام 2002، وبعد مداولات مطولة وجهت المحكمة ستين تهمة ابادة جماعية وجرائم اخرى ضده ولعل تلك اللحظة كانت اهم لحظة بالنسبة للعدالة الدولية منذ عقود طويلة. وشكلت هذه المحاكمة علامة فارقة اذ ان ميلوسيفيتش المتهم بارتكاب جرائم التطهير العرقي وجرائم ضد الجنس البشري في كوسوفو وكرواتيا، هو اول زعيم دولة سابق يقف امام محكمة جرائم الحرب الدولية. وبالتالي فان نجاح المحاكمة من فشلها سيشكل الجهود المستقبلية لمعاقبة اكثر مجرمي الحرب دموية حتى يقرر سياسيو المستقبل اختيار العدالة كواحد من المناهج السياسية لحكوماتهم.
وبدأت المحكمة أعمالها في مايو 1996 بالنظر في قضية جندي صربي كان يدير معسكرا للاعتقال، ومنذ ذلك الوقت اخذت تطال اسماء كبيرة من بينهم جنرال صربي بوسني ساهم في تنظيم مذبحة سربرنيتشا وقادة قوميون صرب وكروات متورطون في مذابح المسلمين ومساعدون كبار لميلوسيفيتش مثل رئيس اركان القوات الصربية،وتمثل قضايا الادعاء أكثر اوجه النجاح للمحاكمات، على الرغم من نجاح اكثر من مجرم حرب في البوسنة من الفرار، لأن هذه المحاكمات وبدلا من ان تحرض على مزيد من التعصب القومي في المنطقة، فقد اصبح العديد من المجرمين الرئيسيين في حروب البلقان وراء القضبان، وحالة ميلوسيفيتش مثال ساطع على فائدة هذه المحاكمات،باعتبار ان القاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة يمثل نجاحا باهرا اذ لم يعد شخصية مؤثرة أو محترمة، وحتى لو تعثرت محاكمته الا انها نجحت في استبعاده عن الحياة السياسية في البلقان.
وبالرغم من البدايات المتعثرة لهذه المحكمة الدولية، الا انه يمكن القول ان ما حققته حتى الآن يعتبر من الانجازات الرائعة للبشرية جمعاء، ومع ان محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش قد تقرر ارجاؤها عدة مرات بسبب الحالة الصحية للزعيم السابق ومنح المحكمة هيئة الادعاء العام مهلة لاستدعاء المزيد من الشهود لعرض ما لديها من أدلة، الا انه من المتوقع ان تنهي المحكمة النظر في قضية ميلوسيفيتش العام القادم .
2 - محكمة رواندا
في غضون مئة يوم سنة 1994 قضى حوالي 800 الف رواندي من قبيلة التوتسي ومن المعتدلين في قبيلة الهوتي نحبهم في مجازر الابادة الجماعية الشرسة التي وقعت في رواندا، وفر العديد من مرتكبي تلك الجرائم من رواندا، واثر ذلك قامت الامم المتحدة ممثلة في مجلس الامن الدولي بتأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا بغية رفع الدعاوى القضائية ضد منظمي جرائم الابادة الجماعية في هذه الدولة الافريقية ومعاقبتهم في تشرين الثاني عام 1994.
وتمكنت المحكمة الدولية حتى اليوم في توقيف عشرات من كبار المسؤولين واخرين يعتقد بأنهم مسئولون عن ارتكاب هذه الجرائم، واصدرت المحكمة الدولية لوائح الاتهام ضدهم، الا ان عشرات آخرين من هؤلاء المسؤولين عن تلك الجرائم مازالوا احرارا طليقين ويمنح النظام الاساسي الحق للمحكمة في محاكمة الافراد المتهمين بالابادة الجماعية البند الثاني من النظام الاساسي وارتكاب الجرائم ضد الانسانية البند الثالث وجرائم حرب معينة تطبق على الصراعات المسلحة الداخلية البند 4. ومثل المحكمة الدولية الخاصة لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، فان هذه المحكمة تحدد المسئولية الجنائية الفردية والجماعية لمرتكبي تلك المجازر، ونتيجة لاختلاف الاحداث على ارض الواقع فان النظام الاساسي لكل من المحكمتين يختلف عن الآخر وذلك فيما يتصل بالقضايا التي تنظرها كل محكمة على حدة كما اسلفنا.
ـ قضية جين ـ بول اكايسو والتي تعتبر اول محاكمة دولية لجرائم الابادة في التاريخ. كان اكايسو عمدة اقليم تابا في رواندا، ووجهت المحكمة تهمة الابادة الجماعية له بسبب المجازر البشرية التي ارتكبها الهوتو ضد التوتسي والهوتو المعتدلين من الاقليم الذي يديره، بالاضافة الى تهم اخرى مثل الجرائم ضد الانسانية بما في ذلك التصفية العرقية والقتل والاغتصاب والتعذيب.وحددت المحكمة تعريفها في هذه المحاكمة لمفهوم الابادة الجماعية، بأنها الافعال التي يرتكبها الاشخاص أو المجموعات ضد اخرى بهدف القضاء عليهم، وقد يكون هؤلاء الآخرون اقلية عرقية أو دينية أو قومية. والاقلية العرقية كما عرفتها المحكمة هي "مجموعة يتحدث افرادها لغة مشتركة ويمارسون ثقافة مشتركة". اما الاقلية الدينية "فهي تلك المجموعات التي تشترك في معتقد ديني واحد" والاقلية القومية هي "المجموعة التي تشترك ضمنيا في رباط قانوني يعتمد على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات المتبادلة".وأدانت المحكمة اكايسو لارتكابه جرائم ابادة جماعية، وجرائم ضد الانسانية تتضمن مجموعة مختلفة من الجرائم بما في ذلك الاغتصاب واصدرت احكاما تاريخية عقابا على الاغتصاب كجريمة ضد الانسانية وكأداة للابادة الجماعية.كما مثل أمام المحكمة ومقرها مدينة اروشا في تنزانيا تارسيس رينزاهو المتهم بالمشاركة في اعمال ابادة جماعية عام 1994 عندما كان حاكما لمدينة كيغالي التي ازهق الهوتو فيها وحولها ارواح ما يزيد على 450 ألفا من التوتسي.
والمعيار الذي تبنته المحكمة في قضية اوكايسو وعملت به في المحاكمات الاخرى والذي ينص على أن المتهم يجب ان يكون ناشطا في مجال "دعم جهود الحرب" حتى يجرم بموجب البند الرابع من النظام التأسيسي للمحكمة،وفي تبنيها لهذا المعيار يبدو ان المحكمة استنتجت وجود اعمال ابادة جماعية في رواندا بموازاة نزاع مسلح، وان كل الجرائم التي ارتكبها المتهمون قد وقعت اثناء عمليات الابادة الجماعية، وليس كجزء من النزاع المسلح، حتى عندما يكون القادة العسكريون هم المتهمون. وهذا يشكل سابقة خطيرة في محاكمة مرتكبي جرائم الحرب في النزاعات المسلحة المحلية الاخرى.
ن أهم الاحكام التي اصدرتها المحكمة ادانة ثلاثة من رجال الاعلام بارتكاب جرائم ابادة جماعية من خلال الايعاز للاخرين بالمشاركة في موجة القتل التي اجتاحت رواندا. وثبت للمحكمة ان المتهمين قد اجرموا باستخدام محطة اذاعة محلية وصحيفة لاثارة الكراهية ضد قبيلة التوتسي التي تشكل اقلية في البلاد وتوجيه وتشجيع حملات القتل الجماعي.
والحكم الذي صدر في الثالث من كانون الثاني 2004 يشكل سابقة من نوعه منذ محاكمات نورمبيرج الذي يحمّل متهمين مسؤولية الابادة الجماعية من خلال السيطرة على اجهزة الاعلام. وهو يتجاوز في مضمونه الحكم الذي صدر بحق الناشر النازي يوليو سترايخر العام 1946، وهو يشكل سابقة في تقرير ان المؤسسات الاعلامية يمكن ان تخضع للمحاكمة للجرائم التي وجهت مستمعيها وقراءها لارتكابها.
وبالرغم من ان المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة ونظيرتها المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا مؤقتتان ودورهما في التاريخ مؤقت، الا انهما نجحتا في ارساء حجر الاساس لمجتمع دولي متحضر، حيث كان العالم قبل انشاء هاتين المحكمتين يبدو وكأنه غابة، اذا ما قورن بالمجتمعات الداخلية وأوصلت المحكمتان رسالة واضحة لكل من يريد ان يعيث في الارض فسادا، او يهين ادمية الانسان وكرامته، فحوى هذه الرسالة انه لا احد فوق القانون، ولا احد مطلقا فوقه في المجال الدولي، وهذا تحول تاريخي مهم للغاية، وكونه طبق في يوغسلافيا وفي رواندا، فانها بداية سبقها تمهيد وتحضير لانشاء محكمة مجرمي حرب دائمة تنظر في قضايا الابادة البشرية وانتهاك كرامة الانسان.
3 - المحاكم المختلطة
هناك عدة سوابق في هذا المجال،كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة الى الخمير الحمر ابان الحرب الاهلية الكمبودية بين الاعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الامم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من اجراءات ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبرغرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما ان تعيين القضاة الاجانب يتم من قبل المجلس العدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الامين العام للامم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالاجماع في المستويين واذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.اضافة الى ان الاجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع اجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الاخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الامن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد انشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للتظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات ايضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لاجراءات المحاكمة والاحكام.
اما السايقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الانسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
خامسا: مسؤولية الدولة في التعويض
ان الاتجاه الحديث للقانون الدولي الجزائي يقر بمسؤولية الدولة عن الافعال الجرمية الجنائية لرعايها داخل الدولة وخارجها وهي بالتالي مسؤولة ايضا عن الضرر الواقع نتيجة هذه الافعال وبالتالي عليها تعويض الضرر ماديا ومعنويا وبخاصة عن الافعال المرتكبة من قبل رعاياها ان كانوا في مهام خاصة خارج دولتهم، وتستمر هذه المسؤولية بصرف النظر عن مرور الوقت لا سيما في القضايا ذات الطابع الانساني فبمثل تلك الاحوال لا يُعتد بتقادم الزمن كما ذكرنا.
ان الجرائم ضد الانسانية وما يعقبها او يتخللها من مقابر جماعية باتت سمة من سمات النزاعات المسلحة الداخلية او الخارجية المتعددة الطرف،وقد عانى لبنان كغيره من الدول والمجتمعات البشرية من الجرائم والمقابر الجماعية ، ومهما يكن من امر فإن القانون الدولي الانساني قد انشأ الاطر لمحاكمة المسؤولين عنها ،الا ان العبرة تكمن في ان القانون ينشىء الحق لكن من يملك القدرة على التنفيذ؟ سؤال تجدر الإجابة عليه!.