17‏/02‏/2008

قمة الجزائر وإصلاح النظام الإقليمي العربي

قمة الجزائر وإصلاح النظام الإقليمي العربي
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات والمنظمات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في المجلس النيابي اللبناني

يقف العرب على أعتاب مرحلة انتقالية تاريخية حيث أدت التحولات العاصفة الجارية على المستويات الدولية والاقليمية والعربية بل والداخلية في كل دولة عربية على حدة الى طرح تحديات كبيرة أمام الجامعة وقمتها في الجزائر، تحديات لم تنشأ الجامعة أصلا لمواجهتها ولكنها تجد نفسها مضطرة بالضرورة الى التعامل معها فضلا عن ضرورة التعامل مع المشكلات التقليدية التي صاحبت انشاء الجامعة العربية من البداية والتي ظلت تتصاعد مع تطور عملها ولا تزال قائمة حتى الآن.
فالحديث عن اصلاح الجامعة تصاعد بشكل عام تحت وطأة الأزمات الحادة التي مر بها النظام الاقليمي العربي ولكن ظل حديثًا دون التحول الى برنامج عمل مقترن بآليات قابلة للتنفيذ، ومع كل أزمة تتعالى أصوات يطالب بعضها باصلاح الجامعة في حين يطالب الآخر بانهاء عملها أو استبدالها بمؤسسة أخرى قادرة على التصدي لما يواجه الأمة من مشكلات. لذا فانه من الملائم البحث أولا في أسباب فشل عمل جامعة الدول العربية ومناقشة ما يعترض عملها من عوائق وتحديد ماهيتها للتوصل الى أفضل السبل لاصلاح وتطوير الجامعة لتتحمل تبعات العمل العربي الملقى على عاتقها.
ان المراجعة الدقيقة لأوضاع الجامعة سيكون من شأنه ابراز أحد بديلين: الأول يتمثل في استبدال النظام الاقليمي العربي الحالي بوضع جديد يقوم على واحدة من قاعدتين: اما علاقات ثنائية بين الدول العربية منفردة والطرف الدولي الأعظم نفوذًا في المنطقة العربية أي الولايات المتحدة الأميركية واما بناء نظام اقليمي غير عربي يكون أساسه التحالف الأميركي ـ الاسرائيلي.
أن البديل الاخير يتطابق والرؤية الأميركية لاعادة ترسيم المنطقة العربية، على قاعدة اعادة هيكلة المنطقة ضمن مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي يتضمن ادماج بعض الدول العربية في نظام واحد اسرائيل وتركيا تحديدًا وايران وباكستان في مراحل لاحقة ، على أن يجمع بين النظام والولايات المتحدة شكل أو آخر من التحالف الاستراتيجي، ويعني هذا التصور بطبيعة الحال تجميد دور الجامعة العربية.أن التصور السالف الذكر ليس نتاج التطورات الأخيرة، وانما يجد جذورًا له في الممارسة الأميركية منذ أكثر من نصف قرن، حيث عبر عنه في صيغ ومقترحات مختلفة مثل منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط 1950 ومشروع حلف بغداد 1955، الدعوة الى التوافق الاستراتيجي بين دول الشرق الأوسط عام 1980.ومما يدعم هذا البديل الواقع السياسي الدولي والاقليمي عبر هيمنة المحافظين الجدد الأميركيين المتعاطفين مع صقور السياسة الاسرائيلية على مؤسسة صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية وازدياد النفوذ الأميركي على نحو غير مسبوق في السياسة العربية، فضلا عن تراجع فكرة العروبة التي قام عليها النظام الاقليمي العربي.
أما البديل الثاني: فيتمثل في تطوير النظام الاقليمي مع الحفاظ على طابعه العربي، وهو ما يعني بصورة أخرى تبني مشاريع ودعوات تطوير وتجديد النظام الاقليمي، الا أن أنصار هذا البديل في حد ذاته ينقسم الى فريقين: الأول، يرى أن جامعة الدول العربية قد ماتت وتنتظر موعد الدفن ،ومن ثم فان الحل ازاء هذا الوضع تصفية الجامعة بشكلها الحالي وتأسيس جامعة عربية جديدة. أما الفريق الثاني، فيؤيد مبدأ التغيير في حد ذاته ولكن من دون ذهاب المؤسسات القائمة. وتتبنى هذه الرؤية دول محورية في العالم العربي مثل المملكة العربية السعودية وسوريا وجمهورية مصر العربية.وبرأينا ان الخيار الثاني هو الامثل للعديد من الاعتبارات منها:
- أن المقوم الثقافي الذي نشأ عليه النظام الاقليمي العربي والذي تأسست بموجبه جامعة الدول العربية لا يزال حتى الآن أساسًا رئيسيًا لقيام واستمرار الكيانات السياسية قومية كانت أم اقليمية.
- أن مشروعات التكتل الاقليمي أضحت تكتسب زخمًا متناميًا على الصعيد الدولي، وعددها يرتفع باستمرار، وبانتهاء عام 2005 من المتوقع أن يبلغ عدد مناطق التجارة الحرة في العالم حوالي 300، وفي هذا الاطار لن يكون من المقبول أن يطالب أي طرف دولي أو اقليمي الدول العربية بتفكيك منظومتهم الاقليمية بينما يرتفع عدد المنظمات الاقليمية في العالم وتنهمك دوله في تطوير علاقاتها الاقليمية.
- أن بعض القوى الدولية التي كانت تقف موقفاً متحفظًا تجاه فكرة التكتل الاقليمي العربي اتجهت في السنوات الأخيرة الى مراجعة موقفها السلبي والعدول عنه ونقصد بذلك تحديدًا الاتحاد الأوروبي الذي يسعى الى ايجاد حليف عربي بهذف الوقوف لحانبها لمواجهة مشروعات السياسة الأميركية.
ـ بيد أن أهم الدوافع وراء اصلاح الجامعة العربية يتمثل في الكم الكبير من الانتقادات التي وجهت الى الجامعة العربية. فهذا التنظيم الاقليمي ارتبط منذ نشأته بموضوعين مهمين وهما الأمن العربي ومستقبله والنظام الاقليمي العربي في أبعاده الأربعة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية حيث أن أداء الجامعة في كل هذه الأبعاد جاء أقل من المستوى المتوقع والمطلوب. فقد أخفقت الجامعة في حل القضايا والمشكلات العربية، بدءاً من مشكلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وانتهاءً بالقضية العراقية، هذا فضلا عن اخفاقها في اقامة تعاون اقتصادي معقول بين الدول العربية.
ثمة العديد من الاسباب التي وقفت وراء اخفاق الجامعة في تحقيق الأهداف التي نشأت من أجلها، فضلا عن المتغيرات الاقليمية والدولية الجديدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ تمسك الدول العربية بسيادتها الخاصة بينما يتطلب تطوير الجامعة الدخول في نظام اقليمي تخلي الدول الأعضاء عن جزء من السيادة الخاصة لصالح الجماعة، وتجدر الاشارة الى أن الدول الأعضاء ذاتها كانت حريصة منذ البداية على التأكيد في الميثاق على سيادتها واستقلالها دون أي ذكر لضرورة تنسيق السياسات بصورة ملزمة، بل تم حذف مادة بهذا الشأن من البروتوكول التأسيسي للجامعة الأمر الذي جعل مسألة اتخاذ مواقف التضامن بين أعضاء الجامعة مسألة خاضعة لارادة كل دولة. هذا التمسك بالسيادة ترتب عليه عدم التزام الدول الأعضاء بتنفيذ القرارات التي تصدر عن الجامعة اذ أن هذه القرارات ظلت مجرد توصيات قد تنفذها وقد تتخلى عنها ويرتبط بهذا الأمر عدم وجود سلطة الزامية تستخدمها الجامعة لتنفيذ القرارات ما أدى الى فقدان الثقة في قدراتها على حل القضايا والمشكلات التي يتم عرضها على الجامعة، ما يدعوها الى اللجوء الى منظمات أخرى لاسترداد حقوقهم أو حل نزاعاتهم ومشكلاتهم.
ـ النظام الأساسي للجامعة العربية، اذ أن هذا الميثاق الصادر عام 1945 بني على معطيات وظروف لا تتوافق مع المعطيات الجديدة ولا مع أحوال العالم العربي وهو ما يحتم على الجامعة القيام بمراجعة ميثاقها لاسيما ما يتعلق بأسلوب وآلية التصويت حيث يشترط الميثاق اجماع الآراء وهو الأمر الذي يصعب حدوثه في ظل الاختلافات السياسية والأيديولوجية والتاريخية بين الدول الأعضاء ويؤدي في النهاية في كثير من الأحيان الى العجز عن التوصل الى قرارات في العديد من القضايا العامة والمحورية. فعلى الرغم من تأكيده على التعاون بين البلدان العربية في عدد من المجالات خاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة2) الا أنه لم يتعرض لآليات مثل هذا التعاون سواء على مستوى اللجان التي يتم انشاؤها لهذا الغرض «المادة 4» أو فيما بين الدول.كما أن الميثاق لم يتضمن النص على كيفية اعادة هيكلة الجامعة كما لم يشمل على فصل خاص أو حتى بعض المواد التي تتناول المنظمات العربية المتخصصة وعلاقتها بالمنظمة الأم على غرار ميثاق الأمم المتحدة. ولا تملك أمانة الجامعة ـ المخولة السهر على تنفيذ قرارات الجامعة ـ صلاحيات تنفيذية أو عقابية على غرار ما لدى المفوضية الأوروبية في بروكسل من صلاحيات داخل الاتحاد الأوروبي والتي استطاعت من خلال بضع سنين أن توحد الشارع الأوروبي خلف قرارات قيادات هذا الاتحاد فضلا عن توحيد الجانب الاقتصادي عبر بوابة اليورو على عكس جامعة الدول العربية التي ظلت في مكانها دون الاتيان بفعل واحد يعود على الشارع العربي بشيء من الاحساس بالجدوى الفعلية لها. ويدلل البعض على ذلك بأن قرار تجميد عضوية مصر في الجامعة على اثر توقيع الرئيس الراحل السادات لاتفاقيات كامب ديفيد ربما هو القرار الوحيد الذي لمسه الشارع العربي والذي خرج عن الجامعة ولكنه كان قرارًا عقابيًا لدولة رائدة وليس قرارًا على طريق تحقيق أهداف الجامعة ـ وفقًا لما يراه البعض. كما يأتي أسلوب التصويت على قرارات الجامعة ليقف الاجماع سببًا وراء صدور قرارات باهتة الصيغ من أجل الوصول الى حلول وسط تحظى بموافقة الأطراف كافة، كما أن الاجماع يضطر البعض الى التحفظ في تنفيذ هذه القرارات ما أسهم في تقويض مصداقية الجامعة.
ـ انشغال الجامعة العربية بالسياسة في حين انشغلت التجمعات الأخرى بالاقتصاد فأخفقت الجامعة فيما نجح فيه الآخرون لأنهم ربطوا مصالحهم الاقتصادية واعتمدوا على بعضهم البعض عبر شبكة من المصالح الاقتصادية والصناعية والخدماتية. ويرتبط بهذا الأمر الضعف الشديد للعلاقات الاقتصادية العربية وفي هذا الاطار يكفي الاشارة الى أن حجم التجارة البينية العربية تدور حول 8% فقط من حجم التجارة العربية الاجمالي، أما بالنسبة للاستثمارات فتقدر ب1% من رؤوس الأموال العربية المودعة في الخارج والتي تدور الأرقام المتداولة بشأنها حول تريليون دولار. كما أن الجامعة لم تعول كثيرًا على الأهداف الاقتصادية التي تعتبر الطريق الاسهل للوحدة، فالدول العربية كسائر الدول النامية تعاني اقتصاداتها من اختلالات هيكلية حيث تشير المؤشرات الى أن ما بين 3% الى 7% فقط من التجارة الدولية هي بين الدول العربية بعضها البعض، وما بين 2% الى 5% للتجارة العربية مع دول أفريقيا وما بين 35% الى 45% للتجارة مع دول الاتحاد الأوروبي وما نسبته 30% الى 39% للتجارة مع الولايات المتحدة الأميركية أما التجارة مع دول شرق آسيا فتتراوح نسبتها ما بين 10% الى 15%.
4ـ فضلا عن الممارسات السابقة نجد الدول العربية لا تفي بالتزاماتها المالية تجاه الجامعة في الوقت الذي تلتزم فيه هذه الدول بالتزاماتها كاملة تجاه المنظمات الدولية الأخرى كالأمم المتحدة أو حتى منظمة الوحدة الأفريقية التي لم تعط حتى الكلمة للدولة التي لم تقم بتسديد اشتراكها المالي.
ـ وتأتي الممارسات بين الدول الأعضاء سببًا ربما الأكثر أهمية في وهن الجامعة فبرز الصراع العربي ـ العربي في أكثر من موقع ثم جاء احتلال العراق للكويت والتدخل السوري في لبنان ثم القضية العراقية الأخيرة التي عكست عجز الجامعة عن القيام بدورها ازاء تجنب الحرب والوصول الى حل لتلك الأزمة وبالتالي فقد أسقطت كل هذه الأحداث فكرة الأمن المشترك أبرز الأفكار التي أنشئت الجامعة لتحقيقها.اضافة الى رفض الدول الأعضاء فكرة التدخل الحميد للجامعة لحل النزاعات فيما بينها في حين توافق عليه داخل منظمات أخرى.
ـ كما وصل الأمر الى أن الدول العربية الأعضاء قد جمّدت عن عمد قرارات اقتصادية وثقافية واجتماعية للجامعة وتصرفت بما يلائم وضعها القطري ، ولم ينج من هذه القرارات الا النذر اليسير وكان أغلبها في المجال الزراعي أو بعض الأنشطة في قطاعات التعليم والصحة والثقافة وحتى في المجال الثقافي وما قدمته الجامعة بشأن «حوار الحضارات» حين احتضنت مؤتمرًا خاصًا به... أحاط الغموض والالتباس هذا المشروع فلم يحدد أي حوار ومن هم أطرافه ولذا لم يفض الى أي نتائج ملموسة بل أنه حتى لم يسهم في تخليص الصورة العربية من الشوائب التي لحقت بها لدى أبناء الحضارات الأخرى.
ان اصلاح الجامعة العربية يتطلب الجهد الكبير اذا توافرت الارادة والنية لذلك، لكن السؤال المطروح بقوة،هل ان واقع الانظمة العربية نفسها قادرة على الاصلاح من دون اصلاح انظمتها المتهالكة؟وهل ان قمة الجزائر المنشغلة في مشاريع السلام وصياغة خطوطه ستلتفت الى واقع الجامعة؟ ان اصلاح الانظمة بات ضرورة ملحة لمواجهة التحديات الكبيرة المطروحة ليس على الانظمة نفسها بل على مواطنيها ايضا،وبرأينا لم يعد هناك من مبرر لربط الاصلاح بالمخاطر المحدقة بنا. فهل يعي القادة العرب الى اهمية الاصلاح قبل المصالحة كما جاء في شعار القمة؟