17‏/02‏/2008

هل تعيد الدرع الصاروخي الحرب الباردة بين روسيا والناتو

هل تعيد الدرع الصاروخي الحرب الباردة بين روسيا والناتو؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

ليس من قبيل المبالغة القول بأن الخلاف الناشب بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية حول الدرع الصاروخى يعتبر الخلاف الأكثر حدة وخطورة بين الجانبين منذ انتهاء الحرب الباردة، متجاوزاً فى ذلك العديد من الخلافات السابقة بينهما، سواء تلك التي نشبت بشأن توسيع حلف الناتو شرقاً، أو بسبب حملة الناتو على صربيا، أو حول الحرب الأمريكية على العراق.. وغيرها.
حيث تبدو كافة الخلافات السابقة محدودة بالمقارنة مع الخلاف القائم حالياً بشأن الدرع الصاروخي، والذي تؤكد إدارة جورج بوش على كونه أمراً حيوياً لحماية الأمن القومي الأمريكي، بينما تراه روسيا تهديداً خطيراً للتوازن الاستراتيجي العالمي لصالح الولايات المتحدة، وهي مخاوف لا تطرحها روسيا فقط، وإنما تشاركها فيها العديد من القوى الدولية الأخرى، بما في ذلك الصين والدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي.
جوهر الخلاف
يعود جوهر الخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا إلى اعتزام إدارة بوش نشر 10 صواريخ اعتراضية فى بولندا، ومحطة رادار في جمهورية التشيك، كجزء من برنامج الدرع الصاروخي، الذي بدأت الإدارة الأمريكية في إدخاله إلى حيز التشغيل العملياتي، عقب فترة طويلة من الجدل السياسي والعلمي بشأن هذا البرنامج، وعقب تحولات عديدة طرأت عليه في ظل قيود سياسية وتكنولوجية أحاطت بعملية تطوير وإنتاج عناصر نظام الدرع الصاروخي.
وتمثل منظومة الدرع الصاروخي تتويجاً لمسيرة طويلة من الإقدام والإحجام من جانب الولايات المتحدة إزاء برنامج الدفاع الاستراتيجي، وهي مسيرة كانت قد بدأت في الأصل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت الولايات المتحدة خلالها في تحقيق بعض الإنجازات التكنولوجية تمثلت فى نظام سنتنيل للدفاع الصاروخي، إلا أنها توقفت عن مواصلة هذه الجهود، وأبرمت مع الاتحاد السوفيتى معاهدة حظر الأسلحة المضادة للصواريخ الباليستية فى عام 1972، فى ظل رؤية محددة تقوم على أن حفظ الاستقرار الاستراتيجي ومنع نشوب حرب نووية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إبقاء الأجواء مفتوحة وغير محمية بهدف إيجاد ردع متبادل بين الدول الكبرى.
ولكن إدارة رونالد ريغان أعادت استئناف تطوير نظام للدفاع الصاروخي في بداية الثمانينيات، في إطار ما عرف وقتذاك بـ مبادرة الدفاع الاستراتيجى.
وعلى الرغم من أن إشكاليات تكنولوجية ومالية هائلة كانت قد برزت وقتذاك أمام هذه المبادرة، مما تسبب في إيقافها، فإن الثابت مع ذلك أن هذه المبادرة حققت جزءاً رئيسياً من أغراضها حينما عجز الاتحاد السوفيتى عن مواصلة التنافس الاستراتيجى مع الولايات المتحدة فى عهد ميخائيل جورباتشوف فى النصف الثانى من الثمانينيات، ثم تطورت الأحداث بعد ذلك في اتجاه إنهاء الحرب الباردة، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي ذاته.ومع أن إدارة بيل كلينتون أعادت بدورها إحياء برنامج الدفاع الاستراتيجي فى منتصف التسعينيات، فى إطار مدركات استراتيجية مختلفة، تقوم على إيلاء عناية أكبر للتهديدات الناتجة عن انتشار الصواريخ الباليستية لدى من تسميهم الولايات المتحدة بـ الدول المارقة، مثل كوريا الشمالية وإيران والعراق، والتى تستطيع أن تهدد أمن الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها. وعلى الرغم من أن إدارة كلينتون قطعت شوطاً فى جهود البحث والتطوير فى هذا البرنامج، إلا أنها توقفت تحت تأثير الخلافات الحزبية والفنية، سواء بشأن تقييم مدى جدية وخطورة التهديد الصاروخى على الولايات المتحدة، أو بشأن مدى قدرة القاعدة الصناعية والتكنولوجية الأمريكية على تطوير المكونات المعقدة لهذا النظام، أو بشأن انعكاسات هذا البرنامج على معاهدات ضبط التسلح، لاسيما مع روسيا.
وحينما وصلت إدارة جورج بوش إلى السلطة، تبنت أفكارا طموحة بشأن تسريع جهود البحث والتطوير والإنتاج لهذا النظام. وعلى الرغم من أن هذه الإدارة بررت هذا التوجه بالحاجة إلى مواجهة التهديدات الصاروخية القادمة من الدول المارقة، ثم أضافت إليها ـ بعد 11 سبتمبر 2001 ـ مخاوف حدوث هجمات صاروخية أو هجمات باستخدام أسلحة الدمار الشامل من جانب الجماعات الإرهابية، فإن الأمر المؤكد يتمثل فى أن الدافع الرئيسي لإدارة بوش كان يتمثل في توظيف برنامج الدرع الصاروخى كأداة محورية للحفاظ على التفوق الاستراتيجى الأمريكي.
مواجهة الحقيقة
يعتبر الخلاف المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا حول الدرع الصاروخى أمراً متوقعاً، بحكم أن مقدمات هذا الخلاف كانت موجودة بالفعل منذ فترة طويلة، وكان من المؤكد أنه بمجرد أن تنتهى الولايات المتحدة من مراحل البحث والتطوير والإنتاج الكمى لنظام الدرع الصاروخى، وتبدأ فى نشره عملياتياً، فإن ذلك سوف يفجر بالتالى كافة المخاوف المتوقعة، لاسيما من جانب روسيا، بما قد يترتب على ذلك من إقدام الأخيرة على ردود فعل عنيفة، فى إطار سلسلة من إجراءات التصعيد، على نحو يمكن أن يؤسس لحرب باردة جديدة بينهما.ويعود التصعيد المتزايد إلى أن روسيا تعتبر نفسها الهدف الأول لبرنامج الدرع الصاروخى، باعتبار هذا البرنامج يمثل بحد ذاته مصدر تهديد للتوازن الاستراتيجى القائم بين روسيا والولايات المتحدة، ناهيك عن أن من المنطقى أن تزداد حدة الشعور بالتهديد من جانب روسيا حينما تشرع الإدارة الأمريكية فى نشر عناصر من هذا الدرع فى النطاق الجغرافى القريب من الحدود الروسية، أى فى بولندا وتشيكيا، بما يحمل دلالة بالغة الأهمية بأن روسيا هى المستهدفة من نشر تلك العناصر، بغض النظر عما تعلنه الإدارة الأمريكية فى هذا الشأن.
ومكمن الشعور بالتهديد من جانب روسيا إزاء الدرع الصاروخى الأمريكى يتمثل فى الدلالات الاستراتيجية الأعمق، والمتمثلة فى أن نشر هذا البرنامج وبروز فاعليته العملياتية يضعف كثيراً من مكانة روسيا فى الميزان الاستراتيجى مع الولايات المتحدة، لأنه يحرمها من ورقة القوة الوحيدة التى ما زالت تمتلكها، وهى القوة النووية الاستراتيجية، والتى تحفظ لروسيا مكانتها كقوة دولية كبرى. وتلعب القوة النووية الروسية دوراً محورياً فى الردع النووي المتبادل مع الولايات المتحدة، والقائم على أن كل طرف منهما يمتلك القدرة على تدمير الطرف الآخر فى حالة نشوب مواجهة نووية، بما يعنى حدوث دمار متبادل مؤكداً للطرفين، الأمر الذى يمنع بالتالي كل طرف منهما من المبادرة بشن الحرب على الآخر.وإذا امتلكت الولايات المتحدة نظاماً للدفاع الصاروخى يجعلها فى مأمن من أي هجوم نووي شامل، سواء كان هجوماً استباقياً أو هجوماً مضاداً، فإن ذلك يجعلها قادرة نظرياً على مهاجمة الآخرين من دون أن يمتلك هؤلاء القدرة على الرد، بما يعنى انهيار الردع النووى المتبادل بين الولايات المتحدة وروسيا، بل وبين الولايات المتحدة وأي قوة دولية أخرى، بما يحقق للولايات المتحدة تفوقاً مطلقاً في الميزان الاستراتيجي على الساحة الدولية، لاسيما في مواجهة روسيا، وهو ما قد يتسبب في تدهور مكانة روسيا على الساحة الدولية.
حدود التصعيد
كان من المنطقي، إذن، أن يتسم رد الفعل الروسي بالحدة والانفعال إزاء بدء الولايات المتحدة في النشر العملياتي لعناصر الدرع الصاروخي في شرق أوروبا، بحيث لم يقتصر الرد الروسي على مجرد استخدام خطاب سياسي شديد اللهجة ضد نزعة الهيمنة الأمريكية على الشئون العالمية، والتي عبر عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للشئون الأمنية، وإنما امتد هذا الرد إلى خطوات موجعة من نوع تجميد عضوية روسيا فى معاهدة إزالة القوات النووية فى أوروبا، بل والتهديد بأن روسيا ربما تتخذ إجراءات أعنف وأشد قسوة في المستقبل.وكان المسئولون الروس قد أطلقوا في فترات سابقة، العديد من التهديدات بشأن طبيعة ردود الفعل الروسية في حالة نشر الدرع الصاروخي الأمريكي، بما في ذلك إشعال سباق تسلح نووي استراتيجي، من خلال تحديث الترسانة النووية الروسية، وتحويل قطاع منها إلى أسلحة نووية فضائية. وهناك أيضاً طائفة أخرى من ردود الفعل تتعلق بإمكانية تعليق روسيا عضويتها في اتفاقات ضبط التسلح الاستراتيجي المبرمة مع الولايات المتحدة.
والدلالة الأهم هنا تتعلق بانعكاسات هذا السيناريو المحتمل على استقرار النظام الدولى، وما إذا كان من الممكن أن يتسبب ذلك فى إشعال حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، على غرار تلك التى امتدت بينهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضى. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هناك جهودا حثيثة تبذلها الولايات المتحدة وحلف الناتو لتهدئة المخاوف الروسية من نشر بعض عناصر الدرع الصاروخى الأمريكى فى شرق أوروبا، بما قد يساعد فى احتواء الخلافات المتصاعدة فى هذا الشأن من خلال حلول وسط، ترضى الجانب الروسى، وتتيح للإدارة الأمريكية مواصلة السير في برنامجها للدفاع الصاروخي، إلا أنه حتى لو فشلت هذه الجهود، واشتعل سباق تسلح استراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة عودة العلاقات الدولية إلى نمط مماثل لذلك الذى كان قائماً إبان الحرب الباردة.
والخلاصة هنا أن الهدف الاستراتيجي الروسي في الخلاف الحالي بشأن الدرع الصاروخي يقتصر على محاولة الحفاظ على ما تبقى لروسيا من مكانة على الساحة الدولية، بل ومحاولة تعزيزها قدر الإمكان. ولن يكون من مصلحة روسيا، بالتالي، الدخول فى تصعيد ضد الولايات المتحدة قد يفقدها قدراً إضافياً من هذه المكانة، كما أن الولايات المتحدة ليس من مصلحتها أيضاً تصعيد الخلاف مع روسيا، بما قد يفتح ملفاً ساخناً جديداً أمام السياسة الأمريكية التى تعانى من أزمات عديدة فى إطار حربها على الإرهاب، مما يعنى أن من مصلحة الطرفين الوصول إلى اتفاق أو حل وسط لهذا الخلاف، وليس تصعيده، إلا أن الإشكالية هنا تتمثل في أن مواقفهما ما زالت متباعدة بصورة تجعل من الصعب الوصول إلى هذا الاتفاق فى المدى القريب.