17‏/02‏/2008

ماذا بعد مؤتمر العراق الدولي؟

ماذا بعد مؤتمر العراق الدولي؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

على الرغم من بعض الآمال التي عُلقت على مؤتمر العراق الدولي لجهة تأمين مستلزمات تهدئة ملف العراق الداخلي،فإن سلسلة من القضايا ذات الصلة بدول الجوار العراقي أخذت حيزا غير معلن سواء في أعمال المؤتمر أو التحضير له، وبصرف النظر عن حدود حجم النجاحات المحققة أو الإخفاقات،فثمة العديد من القضايا المرتبطة من الصعب القفز فوقها أو تجاهلها،باعتبارها مقياسا لما يمكن أن يتحقق لاحقا.
فقد انعقد المؤتمر لمعالجة ملفات العراق الداخلي وأبرزها الموضوع الأمني وبالتالي تصوير الأمر وكأنه موضوع عراقي بحت،فيما وان كان الموضوع امنيا فهو ذات صلة وثيقة بملفات خارجية متشعبة ليس للعراقيين وحدهم اليد الطولي في تدبير أموره أو التأثير فيه،وعلى الرغم من خلفياته الكبيرة والحساسة لأغلب المشاركين فيه،فالتمثيل لم يكن بمستوى هذه الخلفيات والقضايا وظل بمثابة المستوى الذي يخدم حدود جس النبض السياسي المتبادل لبعض أطرافه وبخاصة بين الولايات المتحدة وكل من سوريا وإيران.وما يعزز هذه الفرضية ما أعلن عن مؤتمر لاحق على مستوى وزراء الخارجية سيعقد في اسطنبول الشهر القادم.
ثمة معطيات ووقائع كثيرة أحاطت بظروف انعقاد المؤتمر وفرضت على أبرز اللاعبين فيه قبول ما لا يرغب به،فالإدارة الأمريكية وبخاصة جناح الصقور في المحافظين الجدد لم يجدوا بداً من القبول بالأمر الواقع والإذعان بتكابر لتوصيات لجنة بيكر - هاملتون،وبالتالي الجلوس مع طرفين صنفتهما كأحد ضلعي مثلث محور الشر؛ففي الوقت الذي مشت الإدارة الأمريكية قُدماً بالخطة الأمنية عبر زيادة قواتها كانت الخطة نفسها تتهاوى أمام اشتداد الانفلات الأمني حتى على وقع اجتماعات المؤتمر نفسه،الأمر الذي يوحي بأن واشنطن لم تجد غضاضة بالقول أن الجلوس على نفس الطاولة مع من ناصبت العداء لهم أفضل بكثير من البقاء تحت الطاولة والاحتماء بخطط أمنية لا أفق سياسي لها.
في المقابل،ثمة طرفين أساسيين في المعادلة العراقية ببعديها الإقليمي والدولي، من الصعب تجاهلهما طوعاً أم إكراهاً؛وبحكم التاريخ والجغرافيا تمكَّنت كل من طهران ودمشق من لعب ادوارٍ أساسية صنفها البعض على أنها أكبر من امكاناتهما الفعلية،وبصرف النظر عن واقعية ودقة هذا التصنيف،ثمة واقع لم تتمكن واشنطن من تجاهله دائما.
فإيران سعت وتسعى إلى تكريس حضور فاعل في القضايا ذات الصلة بالسياسات الخارجية الاستراتيجية،وبنت تراكمات يُعتد بها في المحيط الإقليمي ومنها الدائرة العراقية،وما عزَّز هذا الدور الاحتلال الأمريكي للعراق الذي فرض على طهران البحث عن وسائل فاعلة لتنفيذ أهداف سياساتها الخارجية،الأمر الذي يُفسر بوضوح تام المطلب الإيراني في المؤتمر وهو تحديد جدولة الانسحاب الأمريكي من العراق،باعتباره من الناحية العملية إزاحة احد ركائز حماية البرنامج النووي وملفاته المعقدة مع الغرب بشكل عام وواشنطن بشكل خاص،فيما هذه الأخيرة تبحث عن الحلول الأمنية التي تحمي مشروعها السياسي والاقتصادي في المنطقة.
أما سوريا التي لعبت دورا محوريا إقليميا على مدى ثلاثة عقود من خلال البوابة اللبنانية،وجدت نفسها محاصرة بشبه إحكام بعد خروجها من لبنان على وقع القرار 1559 وسلسلة الارتدادات السياسية التي أعقبت صدوره،وما عزَّز هذا الشعور السلوك الأمريكي في التعاطي مع القضايا ذات الصلة بالملفّين العراقي واللبناني،ما دفع دمشق التوجه شرقا لانتزاع بعض الأوراق التي تريحها جنوبا وغربا.وبحكم علاقات الضرورة وتقاطع المصالح الاستراتيجية مع طهوان التي وصلت إلى حد التحالف،شكَّل الحضور السوري في المؤتمر رافعة لافتة للمطالب السورية - الإيرانية المشتركة.
وإذا كان هذا المؤتمر لا يشكل جديدا في سلسلة مؤتمرات الجوار العراقي التي بدأت أواخر العام 2004،إلا أن الجديد اللافت فيه الحضور الإيراني والسوري والأمريكي على قدم المساواة وان اختلفت الأحجام والأهداف والخلفيات المعلنة وغير المعلنة.ففي توقيت هذا المؤتمر بالذات نضجت كل الظروف التي أجبرت جميع أطرافه الجلوس ومحاولة الاستماع إلى الطرف الآخر للتمعّن والتفكّر بما عليه الحال؛ فالولايات المتحدة وبخاصة رئيسها في مأزق قواته في العراق،وفرنسا ورئيسها يودّع قصر الأليزيه على وقع فشل السياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط،وكذلك حال بريطانيا ورئيس وزرائها توني بلير الذي يحاول استعادة أمجاد بلاده السياسي سابقا في العراق، وروسيا الحالمة بالعودة إلى المياه الدافئة،والصين الباحثة عن الاستثمارات الاقتصادية التي تمكِّنها من بناء نظام دولي جديد على قوائم اقتصادية لا عسكرية؛كل ذلك وسط جهود إيرانية لمنع عمل عسكري ضد برنامجها النووي،في وقت تكافح سوريا لرد سيف المحكمة الدولية عنها،كل ذلك يجري في العراق والعراقيون وحدهم غير قادرين على التأثير في مجرى الأحداث ووقائعها وهذا ما فسره بشكل أو بآخر رئيس وزرائها نوري المالكي ووزير خارجيتها هوشياؤ زيباري في خلال أعمال المؤتمر.
إن مجمل تلك الظروف أنتجت واقعاً آخراً في نهاية المؤتمر تمثَّل بتأليف لجان متابعة منها لجنة أمنية،باعتبارها بيت القصيد المعلن من هذا الاجتماع،وبصرف النظر عن القدرة لتلك اللجنة من تنفيذ أهدافها ومهامها،فإن أموراً ذات صلة تنتظر الملف العراقي وغيره من الملفات،فماذا في المستقبل المنظور وما هي المعطيات التي يمكن البناء عليها لاحقا؟
أولا لا شك بأن القمة الإيرانية - السعودية قد أمّنت مرورا هادئا لأعمال المؤتمر وأنتجت بيئة سياسية عربية – إقليمية قابلة للبناء عليها وبخاصة في الملفّين العراقي واللبناني وإن بحذر نظرا لعدم الرضا الأمريكي الكامل،ذلك يتقاطع مع مواعيد مفترضة قادمة ذات دلالات سياسية فارقة لوضع المنطقة برمتها ما يجعلنا نسجل بعض الملاحظات منها:
- إن المؤتمر القادم للجوار العراقي والذي سيعقد حكما بعد القمة العربية المقررة في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من الشهر الحالي،سيكون على مستوى وزراء الخارجية الذي يعطي انطباعا أن هذا المؤتمر كما أسلفنا يعتبر مرحلة اختبار نيات وفحص دم سياسي قبل اللجوء إلى العمليات الجراحية إذا اقتضى الأمر.
- إن مؤتمر القمة العربية القادمة في الرياض ستقف على مفترق طرق ربما تكون الأدق في تاريخ قمم الدول العربية،باعتبارها مطالبة بالإجابة على العديد من الأسئلة وبخاصة ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي وما يمكن أن يُقدم من طروح جديدة تكون بمثابة بديل غير معلن لمقررات قمة بيروت العام 2002.
- وبالموازاة والربط بما يمكن أن يقدم في القمة العربية ثمة اتجاها يقوده رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج برامرتز من خلال زيارته غير المعلنة للملكة العربية السعودية وإعادة الإضاءة على ملف القاعدة في اغتيال الرئيس الحريري،ما يوحي بأن تقريره القادم سيشكل بيئة مناسبة لإراحة الوضع السوري وبالتالي تسهيل مرور ما يمكن تمريره في القمة العربية بما يختص بالصراع العربي - الإسرائيلي.
- في الملف النووي الإيراني ثمة اتجاه أخذ مساره مجددا تمثّل في إعادته مؤقتا إلى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على قاعدة ما بناه القرار 1737 من عقوبات في النطاق التكنولوجي،وبالتالي التجميد بالبحث عالي السقف إلى شهرين إضافيين ليبنى على الشيء مقتضاه.
- وفي الملف اللبناني ثمة إسقاطات واضحة تتجه نحو مزيد من الوقت المستقطع لحل مؤقت على قاعدة عدم اللجوء إلى التصعيد من كلا الطرفين المعارضة والموالاة بانتظار سلة الآمال الإقليمية المنتظرة.
- وفي حمأة تلك الاستحقاقات وتشابكها ربما سيكون الوقت عبئا طويلا على ملف العراق الدامي،فلو اتفقت جميع الأطراف التي شاركت في أعمال المؤتمر على ما ينهي لعبة الموت في العراق ثمة أطراف من الصعب السيطرة عليها وبالتالي ستظل تجد المنفذ الملائم لإظهار عدم موافقتها واعتراضها على ما اتفق عليه في المؤتمر أو ما يمكن الاتفاق عليه لاحقا،وبالتالي سيظل العراقيون وقودا لحسابات من السهل معرفة بداياتها لكنه من المستحيل معرفة نهاياتها.
ثمة شكوكا كثيرة تحيط بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وهو ما شكَّل التحدي الكبير أمام مؤتمر العراق الدولي الذي كان بمثابة الامتحان الخطي لمجمل التفاهمات المرغوبة من جميع الأطراف أولا، كما سيكون الأمر مرهونا بما يمكن التوصّل إليه في مؤتمر القمة العربية في الرياض أواخر الشهر الحالي.وإذا كان الحضور الإيراني والسوري لافتا في المؤتمر الأول كونه جمعهما مع الأمريكيين منذ فترة ليست بقصيرة،فإن طيف إيران سيكون حاضرا بشدة في المؤتمر الثاني.وحتى ينعقد مؤتمرا الرياض واسطنبول ثمة وقت سيكون طويلا في حسابات الزمن السياسي العربي الدائم الاتكال على المواعيد والاستحقاقات التي غالبا ليس له اليد الطولى في صناعة وقائعها وأحداثها وبالتأكيد نتائجها.
لقد أدى الإسرائيليون قسطهم للعلا في عدوانهم على لبنان في تموز الماضي،وتركوا لحلفائهم الأمريكيين وغيرهم كيفية ترتيب الاستثمار السياسي للعدوان رغم اعترافهم بالهزيمة،فهل ستتمكن واشنطن مجددا من جرِّ العرب إلى مفاوضات جديدة على نفس قاعدة الاستثمار السياسي لهزيمة النظام العراقي في العام 1990 وتصويرها هزيمة لكل العرب بمواجهة إسرائيل؟ صحيح أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين،إلا أن السؤال يُطرح هل ثمة مؤمنون لا زالوا حريصين على تبيان عدالة قضيتهم؟ الجواب مرهون بالقادم من الأيام.