13‏/02‏/2008

العلاقات السورية الروسية وضرورات القراءة في كتاب واحد

العلاقات السورية الروسية وضرورات القراءة في كتاب واحد
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

ثمة روابط وثيقة جمعت كل من سوريا والاتحاد السوفيتي السابق على قاعدة تقاطع المصالح أولا،والتقارب العقائدي ثانيا،ما مكَّن الطرفان في أوقات كثيرة استثمار الكثير من المسائل التكتية والاستراتيجية.وعلى الرغم من تغيّر العقائد والأنظمة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ظلت العلاقات بين دمشق وروسيا على مستوى مقبول رغم دخول العديد من المؤثرات الخارجية فيها للنيل منها أو حرفها باتجاهات لا يريدها الطرفان.فالدولتان هما بحاجة لعلاقة تكاملية تحفظ تبادل المصالح والتنسيق في القضايا الإقليمية القابلة للصرف في المواقع الدولية،ولهذا سعى الطرفان إلى نسج علاقة غير قابلة للانفكاك حتى ولو تضاربت المصالح باعتبار أن ما يجمعهما أكثر ما يفرقهما،سيما بعد محاولة واشنطن الدائمة في عزل كل من روسيا وسوريا عن المسرحين الإقليمي والدولي كأطراف فاعلة.ومن هنا أتت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو لتؤكد هذا الانطباع في وقت تجهد العديد من المواقع الدولية لزيادة الحصار على دمشق لتدفيعها أثمان كبيرة لملفات أقليمية عمرها من عمر الكيانات السياسية في المنطقة.فماذا في خلفية هذه الزيارة؟وهل أن الرغبة بين البلدين كافية لإبقاء هذه العلاقات على نفس المستوى أم أن ثمة مؤثرات أخرى ستلعب دورا سلبيا فيها؟.
فقد شهدت الفترةالأخيرة تحركات روسية لافتة في الشرق الأوسط وخارجها، من التوسّط المباشر لحل أزمة الملف النووي الإيراني، مرورًا باستقبالها وفد حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وزيارة الرئيس الروسي بوتين إلى الجزائر وتوقيع صفقة لشراء الجزائر طائرات حربية من روسيا، وصولاً إلى الاتفاق الهندي الروسي على إمداد الهند بتكنولوجيا نووية على شاكلة الاتفاق الأمريكي - الهندي، فضلاً عن عقد اتفاقيات لتزويد الصين بالنفط. ومن بين هذه التحركات كان استقبال موسكو في 13 و14 آذار 2006 لوزير خارجية سوريا ،وليد المعلم، في زيارة تعكس استكمال سوريا لما يعرف بسياسة "التوجه شرقًا"، وهي سياسة بدأها الرئيس السوري بشار الأسد منذ زيارته إلى موسكو في 24 - 28 كانون الأول 2005 في محاولة لجذب قوى دولية تعيد قدرًا من التوازن للسياسة السورية بعد التغيرات التي طرأت على المنطقة عقب أحداث 11 أيلول 2001، وبات هذا التوجه أكثر إلحاحًا بعد فقدان دمشق الحليف الفرنسي على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وفي الواقع ثمة وجهتا نظر تفسر مستوى العلاقة ونوعيتها حاليا، ترى الأولى أن دخول روسيا على ملف دمشق - لجنة التحقيق الدولية هو بإيحاء أمريكي بهدف ممارسة الضغوط على سوريا لاستكمال تنفيذ بقية بنود القرار 1559، ما يعني محاصرة سوريا من كل الأطراف حتى ممن تتصور دمشق أنه حليفها، بينما ترى الثانية أن تحركات موسكو الأخيرة في مجملها تصب في جانب السعي الروسي لاستعادة جزء من مكانتها المفقودة على المستوى الدولي.وفي الواقع تبدو وجهة النظر الثانية أقرب إلى الحقائق الموضوعية ومنها:
- إن تفعيل السياسة الخارجية الروسية كان ثمرة جهود سعى إليها بوتين لإعادة مكانة روسيا الدولية في نظام دولي متعدد الأقطاب إلى جانب الولايات المتحدة..
- اقتناع بوتين بأن عودة روسيا إلى الساحة الدولية تستلزم أولا وأخيرا الاعتماد على الذات وعدم طلب أي مساعدة اقتصادية من واشنطن أو الدول الصناعية السبع الأخرى، وبالفعل تحسن أداء الاقتصاد الروسي منذ عام 2000، بل حقق نمواً بنسبة 6.9% خلال الفترة منذ العام 2003. وقد كان هذا التحسّن وراء إعلان روسيا نيتها الالتزام بدفع الدين الخارجي المستحق عليها عن عام 2002 والمقدر بـ 17.3% مليار دولار. كما أعلنت إلغاء 35 مليار دولار من الديون المستحقة على الدول الأفريقية، وهو ما يعادل نصف ما ألغته الدول الدائنة الأخرى مجتمعة من الديون الأفريقية.
- لقد وضع بوتين الاستقرار الاقتصادي والسياسي الداخلي في برنامج أولوياته، وسعى إلى توظيف السياسة الخارجية لخدمة الإصلاح الاقتصادي ما أدى إلى هيمنة الاعتبارات المصلحية وبخاصة الاقتصادية على أولويات السياسة الروسية. وكلما تعاظمت هذه المصالح، ازدادت فاعلية الدور الروسي ومحاولات التأثير والمناورة. كما أن روسيا مالت إلى ترجمة أهدافها ومصالحها إلى علاقات تعاونية تخدم مصالحها ومصالح الأطراف الأخرى،وهي في ذلك تختلف عن المنظور الامريكى القائم على محاولة الهيمنة
ومهما يكن من أمر المتغيرات الطارئة في الشرق الأوسط تبقى هذه المنطقة بالتحديد موقعا وموئلا تجاذبته دول كثيرة طامحة للعب ادوار إقليمية ودولية مؤثرة،ويبدو إن موسكو تحديدا آخذة في هذا الاتجاه نظرا للحاجات والمصالح المتبادلة بينها وبين دول المنطقة وتحديدا سوريا ،ويظهر ذلك جليا عبر العديد من المسائل منها:
- إن الانتشار الأمريكي الكثيف جنوب روسيا في العقد الأخير من القرن الماضي،تحوَّل في كثير من مواقعه إلى قوى احتلال بعد حروب إقليمية كبيرة خاضتها بغطاء دولي،كنموذج أفغانستان والعراق،الأمر الذي حوَّل هذه القوات إلى قوة تهديد للمصالح الاستراتيجية الروسية.ومن الزاوية عينها تشكل هذه القوات خطرا مباشرا على أنظمة دول المنطقة كنموذج سوريا وإيران.
- إن حاجة روسيا للنمو الاقتصادي المستمر للتخلص من سيف المساعدات الخارجية المشروطة،مرهون بحيازتها للعملات الأجنبية الذي لا يمكن إن يتأتى إلا من مصادر بيع الأسلحة لمن يحتاجها،وفي المقابل تبدو دول المنطقة مهتمة بهذا المجال لإعادة بعض التوازن المفقود أصلا في المنطقة.
- إن تعثر مشاريع التسوية إن لم نقل إحباطها في المنطقة بقوة الدفع الإسرائيلية الأمريكية بعد مؤتمر مدريد ومدرجاته،اتاح لبعض دول المنطقة ومنها سوريا،وكذلك للدول الكبرى ومنها روسيا وتركيا،إعادة رسم سياساتها وعلاقاتها من جديد،بدافع تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية.فتركيا الباحثة عن دور ضائع منذ قرن تقريبا وجدت النزاع العربي الإسرائيلي مدخلا له في الآونة الأخيرة للتقرب من إسرائيل وسوريا،فيما التوجه السوري شمالا نحو أنقرة وعدم ممانعتها لهذا الدور لم ينسها المتابعة شمالا باتجاه موسكو،إما الأخيرة المتوجسة من إعادة إحياء دور تركيا على حدودها الجنوبية،فلن تألو جهدا في تجاوزها للوصول نحو مركز الجذب الإقليمي المتمثل بسوريا.
- إن محاصرة سوريا شرقا بالقوات الأمريكية ،وغربا بالقرار 1559 وبنظام لا يؤتمن كليا إليه وجنوبا بإسرائيل، حدا بالدبلوماسية السورية المضي قدما عن خيارات استراتيجية بعدما جرَّبت البرغماتية لحقبة ما ولم تعد تجدي نفعا.وفي هذا الإطار إن العودة لفترة الثمانينات من القرن الماضي لمقاربة العلاقات السورية السوفيتية آنذاك وما تخللها من معاهدة صداقة هدفت دمشق من خلالها لإنشاء توازن استراتيجي مع إسرائيل،فهل تحاول دمشق العودة على بدء في هذا المجال وتكرار التجربة؟وهل أن موسكو ستخطو في الاتجاه نفسه أيضا؟ إن تقاطع المصالح بين الطرفين هو شرط لذلك، إلا انه في المقابل غير كاف،ويستلزم شروط إضافية استراتيجية أخرى.
- إن اقتناع موسكو بأن المشروع الإمبراطوري الأمريكي لن يتوقف عند حدود أوروبا القديمة- الجديدة،بل سيتعداه إلى روسيا نفسها،ما أوجد نقاط تقاطع كثيرة مع رؤية بعض قوى المنطقة ومنها سوريا لمشروع الشرق الأوسط الكبير - الجديد،المصنف كخريطة طريق لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها.
- كما إن إخراج روسيا عمليا من عقود نفط العراق يشكل مناسبة هامة للانفتاح الروسي على دول المنطقة ومنها إيران والسعودية،وان ترتيب بيئة اقتصادية نفطية جديدة تسلتزم تركيز بيئة سياسية ملائمة من الضروري إن تكون دمشق من بينها بالنظر لعلاقتها مع طهران وموقعها بالنسبة لدول المنطقة.
طبعا ثمة عقبات يمكن أن تواجه هذا التحليل المتفائل للعلاقة بين البلدين وبخاصة إذا ما أدرجت المصالح الإسرائيلية الروسية لجهة عدم قدرة موسكو تجاهل ثقل المليون يهودي روسي في إسرائيل،ومدى تأثر الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي بصفقات الأسلحة الروسية المحتملة لدول المنطقة ومنها سوريا؛معطوفة على الموقف الروسي من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ورؤيتها لوجوب التعاون السوري وحدوده في هذا الملف.
لكن مهما يكن من أمر ،ثمة مصلحة روسية سورية مشتركة تتقاطع في الكثير من المحطات السياسية والاقتصادية وحتى في الحسابات الجيو سياسية،وهذا ما يستدعي تقوية العلاقات القائمة ومحاولة الاستفادة من بعض المتغيرات قدر المستطاع ومنها التعثر الأمريكي في العراق وما أنتجته توصيات لجنة هاملتون بيكر،وكذلك نصر المقاومة الإسلامية الأخير على امريكا وإسرائيل .فهل تمكننت سوريا من تجاوز الألغام الإسرائيلية الأمريكية المزروعة على طريق موسكو؟ وهل قرأ الرئيس بوتين في نفس كتاب الرئيس الأسد في زيارته لموسكو؟إن الرئيسين مضطران للقراءة في كتاب واحد،إلا إن الامتحان الإقليمي والدولي هو الذي سيحدد مستوى نجاح أو فشل هذه القراءة،وبقدر ما تكون القراءة هادئة ومعمقة يأتي حساب الحقل مطابقا لحساب البيدر!.