16‏/02‏/2008

في العصيان المدني وشروط نجاحه

في العصيان المدني وشروط نجاحه
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
يبدو أن تجربة العنف والعنف المضاد في بلادنا العربية ، بدأت تأخذ أشكالا مقلقة، ويتبادر لنا السؤال عما سيكون عليه المستقبل؟ فربما تثور من جديد، وربما ستتلاشى، والأمر الذي نتلمسه أن العنف المنتشر في بلادنا لم يحل مشاكلنا بل ربما زادها تعقيدا وحوَّل حياتنا إلى مزيد من اليأس والإحباط والفوضوية. وربما واليوم قد يكون للتفاؤل بارقة أمل لأن ثمة إدراك آخر لسلبيات العنف وتحوّل في منظومة القيم الاجتماعية ، باعتبار أن الشعوب العربية اقتنعت في نهاية المطاف، بأن إستراتيجية المقاومة اللاعنفية هي السبيل الأفضل للحصول على حقوقها السياسية والاقتصادية. فهل تتحقق مطالب شعوبنا المشروعة من حكوماتها عندما تلجأ أحزاب المعارضة إلى استخدام العصيان المدني، كوسيلة ضغط بهدف التغيير؟
يعتبرالعصيان المدني أحد أشكال المقاومة السلبية المشروعة، التي تعني تحرّك المجتمع المدني في كافة قطاعاته، وبمبادرة من أحزاب المعارضة والمنظمات الأهلية، بهدف التعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعد ـم فشل النظام السياسي التعامل معها أو طرحها على الرأي العام بالمكاشفة والمصارحة، وليس بالخداع عن طريق البيانات الحكومية وبعض الصحف وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة.
ويعتبر المواطنون المدنيون هم من يشكل ويصنع الجزء الأعظم في جماعة العصيان المدني أو الذي يشكل بدوره المرحلة الثانية بعد تحرك الشارع في مظاهرات سلمية أمام رموز السلطة الحاكمة بهدف زيادة الضغط على النظام السياسي للتسليم بمطالب الشعب، والتي تمثلها المعارضة خارج السلطة.
وينبغي التنبه إلى أن العصيان المدني تقوم أنشطته بالدرجة الأولى على التحدي، فلا تقيده قوانين النظام، أو قرارات السلطة الحاكمة، وان كان في أحيان كثيرة، يتم عبر القوانين، كما أن لا يستطيع النظام أن يفرض على حركة العصيان نشاطا محددا أو يمنعها من نشاط، أو يفرض عليها ميدانا بعينه.
كما ينبغي ألا تنشغل حركة العصيان المدني بتوجيه خطابها إلى الحاكم أو النظام وتغفل عن اختيار خطاب مناسب للجماهير يدعوهم للمشاركة في العصيان، ويحرضهم عليه ويربط مستقبلهم بنجاحه، طالما أنها قررت المقاومة وليس الاحتجاج.فالمقاومة تسعى إلى إلغاء القرار أو تحدي القانون، فهي ترفض الإذعان أو الطاعة أما الاحتجاج فقد يكون مجرد تعبير عن موقف إزاء قانون ما، أو موقف ما ثم العودة والإذعان.فالمقاومة إذاً في جوهرها هي العصيان، وقد يكون الاحتجاج أكثر قبولا في بعض الحالات، إلا أن تأثيره ليس كتأثير المقاوم.
إن أول من استعمل مصطلح العصيان المدني، وأشار إلى فكرته هو الكاتب الأمريكي "ثوراو" في مقالته الشهيرة " العصيان المدني" في أعقاب امتناعه عن دفع ضرائب الحرب، احتجاجا على العبودية والقمع والاضطهاد، الحرب التي كانت تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية ضد المكسيك.كما استعملها مناهضو الاسترقاق وآخرون ، كما لجأ كارل ماركس لها عند محاولته تنظيم حملة لإقناع الأوربيون بالامتناع عن دفع الضرائب خلال الثورة التي اجتاحت أوروبا عام 1848.كما استعملها غاندي لتحرير بلاده من البريطانيين.
فالعصيان المدني برز كمفهوم في ظل التقاليد الليبرالية والإنسانية التي سادت الأنظمة الديمقراطية الغربية، حيث كانت الأقليات والفئات المضطهدة تلجأ للعصيان المدني لإسماع صوتها كما امتد ذلك ليشمل الأنظمة الدكتاتورية في دول العالم الثالث والأنظمة الاشتراكية ذات الحزب الواحد.
ويعتبر الحوار المحرك الفعال للعصيان المدني، فكلما كان الحوار حول استمرار القيام بأنشطة العصيان في ظل نظام ديمقراطي فعال، كلما كانت الفرص تزداد لقلب الأنظمة غير العادلة. لذلك يظل الحوار في صوره المتعددة تأكيد على مبدأ جديد في المقاومة هو أكثر فاعلية وتأثيرا من بقية أشكال المقاومة التقليدية المعروفة كالمقاطعة أو الاضرابات والمظاهرات والاحتجاجات التي وان كانت ذات فاعلية مباشرة تعتبر أدوات تستعملها الأحزاب السياسية للضغط على الفئة أو الفئات السياسية الحاكمة.
والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه هل بإمكان العصيان المدني اليوم التحول كبديل لظاهرة العنف المسلح؟
رغم أن البعض يعتبر العصيان المدني عملا غير قانوني أو غير شرعي تبعا لقوانين الدولة المعنية فيعتبره البعض الآخر عملا قانونيا.فقد تعمل الكثير من أنشطته على الحد من ظاهرة العنف المسلح، وأبرز مثال على ذلك كانت حركة بلاوشرز في ألمانيا التي هدفت أصلا إلى نزع السلاح بعد أن قام نشطاء الحركة بعصيان مدني، لنزع الأسلحة التي كان القانون الدولي قد حرمها أصلا.كما نشأ خلاف شديد في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الستينات بين مؤيدي المقاومة المباشرة وأولئك الذين يؤيدون العصيان المدني وكذلك الأمر في أوروبا وقد اعتقد أولئك أن إدخال عنصر التأثير الجسدي في المقاومة، إنما قد يقود إلى عزل الكثير من الناشطين عن الحركة، وهو ما يضعف العصيان المدني، ويجعلها حركة ذات أهداف ضعيفة ونشاط محدود.
لذا يمكن للعصيان المدني أن يكون بديلا للعنف المسلح إذا ما اعتمد بالأساس على الحوار المباشر مع مؤيدي السلطة الموجه إليها ذلك النشاط باعتبار أن العنف المسلح هو لغة التطرف والابتعاد عن كل ما هو غير متحضر، لذا من خلال ما تقدم فإن أفضل ما يوصف به العصيان المدني أنه عبارة عن حوار مع الخصم، من خلال أنشطة المقاومة السلمية وهو بذلك يتماشى مع الطريقة أو الأسلوب الذي استخدمه المهاتما غاندي- صاحب مبدأ اللاعنف الذي كان يبدأ حملته بالمفاوضات أولا، ثم يتصاعد إلى الاحتجاج ثم إلى المقاطعة فقدم التعاون مع السلطات ثم العصيان المدني وإذا لم يؤت هذا كله بأي نتيجة فينبغي أن لا يشعر المشاركون باليأس وإنما عليهم ابتكار أسلوب آخر من المقاومة.
سؤال آخر يطرح بقوة حول جدوى اللجوء إلى هذا الخيار في مجتمعاتنا العربية ، ثمة من يرى أن اللجوء إلى العصيان المدني في الدول العربية ، كأسلوب متطور لإنجاز المطالب وتحصيل الحقوق، ما هو إلا ضرب من الخيال، فمن الممكن التحدث عن العصيان المدني، في دولة مثل أمريكا وكندا وسويسرا ، ولكن لا يمكن أن تتحدث عن مفهوم العصيان المدني، في دول كالدول العربية ؛ لان استخدام الأسلوب اللاعنيف راسخ في الدول التي تكون معاييرها أسس العمل الديمقراطي، وحقوق الإنسان وحرياته، وتحكيم مبادئ العدالة والمساواة الاجتماعيين، أما في الدول العربية الجامدة لا يمكن اللجوء إلى هذا السلوك بهدف استبدال الحكومة المستبدة أو تغيير منهجها، لان قيام نهج العصيان المدني غير العنيف في هذه الدول يحتاج إلى ترويج ثقافة اللاعنف والعصيان المدني عند الجماهير والسلطة على حد سواء، وهو ما زال في طور التكوين، يظهر حينا ويخبو أحيانا أخرى. وخلاصة أنصار هذا الرأي: أنهم يؤيدون عمل العصيان المدني، كأسلوب حضاري في إحداث التحولات السياسية، ولكن الحديث عنه في إطار الدول العربية حديث غير واقعي، إذ لم تترسخ قيم السلام واللين، ولا الإستراتيجية اللاعنفية في المجتمعات العربية.
فيما يرى آخرون أن العصيان المدني، هو الطريق الأمثل للمقاومة السلمية، وهو الأسلوب الأسلم لتغيير النظام حتى لو كان في دول متوحشة كالدول العربية بل أن ذلك أكثر فاعلية وجدوى باعتبار أن هذه الأنظمة تعيش وتتغذى بالعنف والعنف المضاد، واللاعنف المضاد أو العصيان المدني يشلها ويجعلها عاجزة ومكشوفة على حقيقتها. كما أن أساليب المقاومة اللا عنفية تتطور مع التطور الحضاري لسلم القيم الإنسانية والثقافة والمعرفة، لأن قوة الاستبداد ووحشيته تنبع من تنامي الجهل والفوضى وبدائية المجتمع المدني. وبالتالي، لا يشترط في قيام العصيان المدني في الدول العربية أن تكون المعارضة والحكومة قد اتفقتا على العمل اللا عنفي، لكي نقول بصحة الممارسة من الناحية النظرية، فسواء اقتنعت الحكومة والمعارضة معا، أو أحدهما دون الآخر، فان اللا عنف السياسي، لابد أن يكون الخيار المتجدد للشعب في كسب الحقوق والحفاظ عليها، لأنه يعبر عن قوة المجتمع المدني وقدرته على تنظيم نفسه وتنامي المعرفة السياسية.
ولكي يتحول العصيان المدني إلى حركة حقوقية احتجاجية شعبية ناجحة لا بد من التأكيد على المبادئ التالية:
- اعتبار العصيان المدني حق طبيعي من حقوق الشعب، لا يمكن التنازل عنه بأي صورة من الصور.
- اعتبار العصيان المدني وسيلة حضارية من وسائل التحول السياسي والمعارضة.
- ضرورة تعميم العصيان المدني عبر نشر ثقافة اللاعنف وتنميط الأدوات والأساليب، وتحويلها إلى قيم ثقافية في المجتمع والجماعات الكبيرة والصغيرة.
- توعية المواطن وخصوصا بأهمية العصيان المدني كوسيلة من وسائل المطالبة بحقوقه المشروعة وممارسة المعارضة السلمية، وإخراجه من دائرة اللا مبالاة والخوف وعدم تحمل المسؤولية.
- قيام مؤسسات المجتمع المدني بتدريس الأسلوب وتعميمه على كافة طبقات المجتمع وتحويله إلى قوة ايجابية وليس تخريبية عنيفة.
- ضرورة تفهم السلطة لأهداف العصيان المدني، وأخذها بعين الاعتبار، والتأكيد على تحقيقها، لان يضمن مصالح البلاد حيث يتم احتواء التخريب والعنف والفوضى.
- تطوير أدوات العصيان المدني واستحداث أساليب جديدة لأداه على وجهه الصحيح.
لقد عانت المعارضة اللبنانية ما عانته في سياق محاولات التغيير المستمرة في نهج الحكومة القائمة حاليا لجهة المطالبة بالمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات وصنعها،فكان تحركها الأكثر عقلانية في رصد الأبعاد والنتائج لتحركاتها،واللافت أن قيادات المعارضة تبدو وكأنها تسبح في عكس طبيعة الأمور،فنادرا ما نرى قيادات معارضة تسعى في خطاباتها الجماهيرية لتهدئة الشارع وعدم إفساح المجال لأن تفلت الأمور من عقالها، وهذا ما اتجهت إليه قيادات المعارضة في جميع وسائلها حتى الآن.
إن خيار العصيان المدني الذي تتجه المعارضة للجوء إليه يعبّر عن فهم عميق ودقيق لما يمر به لبنان من ظروف ربما تكون أصعبها في تاريخه السياسي المعاصر،فحتى قرار العصيان ظلَّ مؤجلا لفترة تعتبر طويلة في حسابات الزمن السياسي اللبناني بعد طول فترة الاعتصام وعدم اكتراث من يعنيه الأمر.وفي الواقع لولا حكمة المعارضة ومقدرتها على ضبط التحركات الشعبية لكانت الأمور غير ما كانت عليها اليوم.
إن ما ينبغي استيعابه هو أن العصيان وسيلة لتحقيق هدف تسعى المعارضة لتحقيقه،الأمر الذي يتطلب من السلطة التجاوب لمطالب شرائح واسعة من اللبنانيين،وبالتالي إدراك أن خطوة الاعتصام إذا ما انطلقت كعربات القطار الذي يصعب وقفه دون إحداث تغييرات جوهرية على بنيته،فمن مصلحة الجميع التمعّن بما هو آت وما سينتج عنه،والسؤال الذي يطرح نفسه مجددأ، هل أن السلطة واعية لما تقف في وجهه أم أنها تعرف عواقب الأمور وتتجاهلها؟ إن التاريخ لم يسجل يوما أن أحدا تمكن من الوقوف في وجه شعب يبحث عن حقه،ثمة رؤوسا حامية تركب رأسها عنادا،تختبئ وراء ظلها ولا تعلم أن الشمس إن اشتدت ستخفي الظل وعندها لن ينفع الندم!